مترجم: حرب الإبادة في سورية، ونهاية المنطق السليم


مركز حرمون للدراسات المعاصرة – ترجمة أنس عيسى

نيكولا تنزر: هو أستاذ مساعد للعلاقات الدوليّة العامّة في قسم العلوم السياسيّة في جامعة السوربون في باريس. وهو رئيس مركز “الدراسات والتفكير للنشاط السياسي”، وهو مؤسسة بحثيّة فكريّة فرنسية، لا تتبع انتماءً سياسيًّا، ومستقلّة عن جميع الأحزاب وجماعات المصالح. كما أنّه مدير دوريّة “Le Banquet”.

01

الصورة: حلب، 27 أيلول/سبتمبر. إخراج جسد طفل فارق الحياة من تحت الأنقاض. كرم المصري/ أ.ف.ب

لعمليّات الأسد وبوتين العسكريّة في سورية تسمية: إنّها حرب إبادة، حرب قد بدأت بالوصول، منذ الآن، إلى مستويات لا مثيل لها: القصف المتعمّد للمدنيّين، وخصوصًا النساء والأطفال ومسعفي أصحاب الخوذ البيضاء، وكذلك قصف المستشفيات، والذي لم يعد بالأمر الجديد، ولكن لتلك الحرب طابع منهجي بدأ يَسِمها، مع هدفٍ واضحٍ: القتل، والقتل ثانيةً لكلّ ما تستطيع. إنّها حرب شاملة، تقوم فيها روسيا بوتين باختبار أسلحةٍ جديدة، كتلك القنابل التي في استطاعتها اختراق الملاجئ، ومن ثمّ تحطيمها.

قام كثيرون، ومن بينهم سفير فرنسا في الأمم المتّحدة بكلام حسّاس ومؤثّر، بالقيام، وعن حق، بالتشبيه مع غرنيكان حيث قام سلاح طيران ألمانيا النازيّة وإيطاليا الفاشيّة بتدمير المدينة، بينما كانت قوّات الجنرال فرانكو تعمل على الأرض. وفي سورية أيضًا، تتحكّم الطائرات الروسيّة بالأجواء، بينما تقوم قوّات جيش النّظام وحزب الله المدعومة والمسلّحة من إيران بالعمل في البر.

من المُتوقّع أن تشتد كثافة حرب الإبادة تلك في الأيّام والأسابيع المقبلة، وكما تضاف جرائم الحرب، التي أضحت واضحةً باطّراد لدرجة أنّ روسيا لا تحاول بعد الآن إخفاءها، إلى الجرائم ضد الإنسانية، والتي ارتكبتها حكومة الأسد، ولا سيّما في سجون النظام حيث أضحى التعذيب الأشدّ سادية ممارسة شائعة.

“لا جدوى لشيءٍ بعد الآن”

كلّ الناس تعرف، أو عليها أن تعرف، ذلك؛ فما كُتب وما عُرض لا يحصى، لقد تمّ توثيق كلّ ما حدث بشكلٍ ممتاز. تسابق الجميع، ساعة شاؤوا، إلى قول وإعادة جملة “لن يحصل هذا بعد اليوم”، لدرجة أنّ تلك العبارة -والتي تكرّرت من جديد بعد أوشفيتز وسربرنيتسا، وكمبوديا ورواندا.. الخ – قد أصبحت مثيرة للشفقة.

الجميع ذكر، مقتبسين الكتّاب الكلاسيكيّين، أنّ اللامبالاة كانت أسوأ خطيئة، وبأنّ الصمت كان جريمة، وأنّ اللّا فعل كان تواطؤًا. الجميع ذكر وأعاد، أيضًا، أنا وآخرون كثر، بأنّه يجب إنقاذ حلب وسورية، وتطبيق مبادئ “مسؤوليّة الحماية”، وفرض الاحترام العسكري لمنطقة حظر جوّي والتي ما زالت ممكنةً كخيار، ما قلناه هو وجوب التدخّل في اختصار.

الجميع قال وأعاد بأنّ الولايات المتّحدة، وليس غيرها، مع حلفائها، كانت قادرة على القيام بذلك، وأنّها كانت مسؤوليّتها الأولى، وبأنّ داعميها المخلصين، من جهةٍ أخرى، قد دانوا جبن باراك أوباما وعدم حسّه بالمسؤوليّة، وتهكّمه، وفي بعض الأحيان غباءه، ولتلخيص كلّ ما نريد قوله، مسؤوليّته أمام التاريخ. وفي الإمكان إضافة التخبّط الإستراتيجي للولايات المتّحدة إلى إفلاسها الأخلاقي.

جميعهم، ومن بينهم كاتب هذه الأسطر، قال إنّ المفاوضات مع روسيا، والتي بدورها لا تمثّل حلًّا إنّما هي المعتدي الأوّل، كانت لعبة مغفّلين، وإنّ ذلك يقويها في سورية كما في الخارج.

جميعهم قال وأعاد بأنّ مشاريع الهدنة المتعدّدة كان محكومًا عليها بالفشل، وهذا ما حصل، وغالبًا ما كانت سرعة الفشل تتجاوز توقّعات أشد المتشائمين.

جميعهم قال وكرّر كيف أضحت الكلمات الدبلوماسيّة كـ “قلق”، والذي قد يكون هو نفسه عميقًا أو عميقًا جدًّا، “إنذار ب “، “طلب سريع ب “، “إدانة من دون غموض ل “- تضيف البذاءة إلى لمعاناة.

جميعهم، في الأخير، اعتقد، بواقعيّة، أنّه ليس في مقدور منظّمة الأمم المتّحدة أن تفعل شيئًا، لأنّها تُعاق بقدرة روسيا على حق النقض (الفيتو) –وغالبًا الصين أيضًا- في مجلس الأمن.

وجميعهم شاهد، أخيرًا، الأوجه الرماديّة الملطّخة بالتراب، والمخطّطة بدمٍ ناشف، جمجمة الرأس في بعض الأحيان متفجّرة، والجسد قطّعت أطرافه وخرجت أحشاؤه، جميعهم شاهد الأطفال يتعرّضون للاغتيال، وشُوهد للمحظوظين منهم –حتّى الآن-  البكاء والدموع أمام أكفانٍ بلا نهاية –تلك العائدة لأبيهم أو لأمّهم، لأخيهم أو لأختهم-. اضطرب وانزعج المتفرّجون، وبكوا، هم أيضًا، كما دعوا إلى العمل، وشجبوا “العجز” المزعوم، والذي يُعدّ كلمةً مؤدّبةً لقول الجبن وفقدان الكرامة.

02

الصورة: طفل تعرّض لإصابة جسيمة في حلب، ويُنقل بشكل إسعافي إلى المشفى. طورج أورفلان/ أ.ف.ب.

كتب لي، مرّةً، صديق مشاركٌ في العمل الإنسانيّ في سورية، وكان هناك على الأرض، بأنّه لا جدوى لأيّ شيءٍ بعد الآن، بأنّ السخط والحزن والمشاعر –سواء كانت عائدةً لمسؤولين سياسيّين أو معلّقين أو له أو لي- تثير غثيانه، وبأنّه لم يعد قادرًا على تحمّل الناس “المضطربين”، وبأنّه قد ضاق ذرعًا بكلّ ذلك. وفي المجمل، إذا كانت ترجمتي جيّدة، فإنّه حتّى الدموع نفسها ومشاعر الغضب قد أصبحتا قميئتين، وبأنّ عار همجيّة النظام وروسيا وإيران هو عارُنا، وبأنّ دموعنا تجعله أكثر دناءة. وبكلماتي الخاصّة، فقد لوّث الشر العالم، أصاب الشر الخير، وقد صبغ تردّد ضحكات الجلّادين تعاطفنا وكرمنا واهتمامنا.

قاوم، إذًا تكلّم

ماذا كان في إمكاني أن أردّ عليه؟ هل ما زال في إمكاني –أو في إمكاننا-، أخلاقيًّا، قول شيء، وهل كان يجب فعل ذلك، مع الخوف بأنّ سخطنا لا ينفع إلّا لإراحة ضمائرنا الحسنة بشكلٍ مثير للشفقة؟  بتعبير سياسي، هل من المناسب، من رسالة إلى رسالة، ومن مقالة إلى مقالة، إضافة عجز الكلمات إلى إفلاس الأمم؟ ومن ناحية التواصل –نعم فذلك مهم من حيث أنّ غزو الكذب وتضليل المعلومات قد أصبحا سلاح حرب- ألم نخاطر بإضافة الإفراط في المشاعر إلى الفائض من الجرائم، العرض الواهن للصور –مع ما يحمله من خطر الضجر الاعتيادي- إلى تراكم الجثث؟ هل أملك، علاوةً على ذلك، الإجابة عن تلك الأسئلة؟

لكن مع ذلك، هل يجب عليّ، وبشكلٍ حتمي، أن أضطر إلى معارضة الإحساس مع الروح، والبرود اللازم للمحلّل مع ثورة المواطن؛ الضرورة الأخلاقيّة المُطلقة، لأنّها مطلقة، مع الرأي السياسي الذي في إمكاني الإجادة به؟ وهنا، ليس في إمكاني ألّا أجاوب.

بالمناسبة، لقد شاهدت، مرّة أخرى، صورة البائع المتجوّل السوري تلك، بائع الدمى بمبلغ زهيد، والمتنقّل من مدينة إلى أخرى، والهارب –مثل كلّ الناس، إلى متى؟ – من عمليّات القصف، لتوزيع تلك الدمى مقابل حصوله على ابتسامة عابرة لأحد أولئك الأطفال، والذين قد يتعرّضون للإبادة والسحق في اليوم التالي. هذا الرجل، على ما أعتقد، لم يقرأ أبدًا كانط، ولا الإنجيل، وربّما لم يقرأ القرآن كثيرًا، كأولئك الناس “العادلين بين الشعوب”، والذين في بعض الأحيان بصعوبة شديدة كانوا متعلّمين، والذين قاموا بإنقاذ اليهود لأنه وجب عليهم القيام بذلك، ولأنّه كان واضحًا، ولا غنى عن إنقاذهم من دون أن يطرحوا على أنفسهم السؤال. قام أولئك الناس -أكثر من أولئك المثقّفين الذين كانوا يتفحّصون الخطر، ويوسّعون جدلهم البيزنطي عن “مع أو ضد”، ويريدون كسب الوقت- وبحسب قول حنا آرندت، بالتفكير ليس إلّا.

لذلك، ليس صحيحًا أنّ كلّ ذلك من دون جدوى، يجب أيضًا أن نقاوم، وهذا يفرض علينا الكلام.

الأعمى، الأحمق والنذل

جميعهم قال، كنت أؤكّد…جميعهم

لا، لا يزال هناك بعضهم –أخشى أن يكونوا أغلبيّة- ممن لم يقولوا شيئًا، وذلك لرفضهم أو بالأحرى لعدم رؤيتهم حقيقة ما يجري خارج ديارهم، فهم يسارعون إلى إغلاق أبوابهم والالتفات إلى “شؤونهم وأعمالهم”، فمأساة العالم لا تعنيهم إلّا عندما تلمسهم أو تبدو مهدّدة لهم، وكونهم محبوسين في عالمهم، هم، نوعًا ما، في اللامكان. أبدى بعضٌ منهم، وبكلّ تأكيد، اهتمامه للحظة، لكنّه تخلّى عنه سريعًا، نعم إنّه لأمر متعب أن تحافظ على الانتباه في مجتمع يهدف إلى تشتيته، و”تعب” سورية –كتعب أوكرانيا والسودان واليمن…الخ-  يجرف الانتباه. “يجب أن نحاول العيش”. نعم، وبكلّ تأكيد؛ فأولئك هم العميان.

مع اختلاف بسيط، يوجد، أيضًا، أولئك الذين تهمّهم التسلية والعبث أكثر من أيّ شيءٍ آخر، هم يفضّلون التفاهة، وذلك ما كان كاستورياديس يطلق عليه “صعود التفاهة”، فهنالك من ينظر إلى المعلومات الرياضيّة أو مزاريب المياه المحليّة أو الجمل الصغيرة بعينٍ فائقة الأهميّة. وتُعدّ “سطوة الغبيّ”، بحسب عنوان كتاب فروتيرو لوشينتيني -وهي نصيبنا المشترك- مُقلقةً بقدر كونها غير مُحتَملة. كيف في إمكاننا “تحمّل” حقيقة أن تصبح طروحات مقدّم برامج، متملّق لغبائه، على شبكات التواصل الاجتماعي أكثر أهميّة، بما لا يُقاس، بمجازر حلب وحمص ودرعا أو داريّا؟ إنّ العتاهة سلوك بذيء في ساعة الجريمة، كما كان ابتهاج الناس في الخطوط الخلفيّة عندما كان غاز الخردل يخنق أولئك من في الخنادق خلال الحرب العالميّة الأولى. أولئك هم الحمقى.

03

الصورة: يدفع الأطفال ضريبة عالية للقصف، من حلب وسط الغارات الجويّة لروسيا ودمشق. أمير الحلبي/ أ.ف.ب.

آخرون، وأخيرًا، يرون ويعرفون، وكما يُقال: يحلّلون. هم يقولون لك مسبقًا، أوّلًا هذه “طبيعة الحرب”، وأنّ المشاعر والتعاطف، في هذه الحالة، يعدّان ناصحَين سيّئين، وأنّه، نعم، تسكن المأساة العالم وأنّه يجب “”أخذ الوقت” للتحليل، ويجيبون على حقيقة أنّ كلّ ساعةٍ تمرّ تساوي عشرات المعذّبين بأنّ ذلك، في المحصلة، عملهم.

إلّا أنّ تلك “التفاهة” والمُصانة بغياب الفكر، والتي قام جان مارك لافون بشجبها، تُعدّ قاتلةً؛

حيثُ يغدو كلّ ذلك التحفّظ المؤدّب فراغًا قذرًا، ولذلك التحفّظ شرح: تضليل المعلومات الذي يمكن وضعه في أربع قنوات بلاغيّة:

المعدّلون، في البداية، يحدّثونك عن الدولة الإسلاميّة، وعن مسؤوليّة الولايات المتّحدة في صعودها، -والتي لم يقاتلها لا الأسد ولا بوتين، بل على العكس هي لا تزعجهم)، وعن أهميّة الدفاع عن العلمانيّة في المقام الأوّل، وعن الأقليّات، وخاصّة المسيحيّين) – وبأنّ تعرّض جزءٍ آخر غيرهم للقتل من جانب الأسد لن يكون، في نظرهم، إلّا “تفصيلًا” تاريخيًّا.

ومن ثمّ هنالك، المشوّشون، والذين يطالبونك، في بادئ الأمر، بالحديث عن الفظائع التي تحصل فعلًا، والتي ترتكبها المملكة العربيّة السعوديّة في اليمن، وعن عمليّات القصف (التي لا توصف) على غزّة، يتلوها بعد ذلك استطراد أكبر عن الدولة العبريّة، وعن تأثيرها واستغلالها للمحرقة…الخ، ثم عن الفوضى في ليبيا، والتي يجب طبعًا تجنّبها، ما يعني لهم الخيار بين “الأسد أو الفوضى”، وبكلّ تأكيد عن الحرب في فيتنام.

أمّا بالنسبة إلى “النسبويّين”، فسيطالبونك بنظرة متوازنة، وسيكرّرون قولهم بأنّ الواقع لا يمكن أن يكون أسودَ بالكامل أو أبيضَ بالكامل، وسيطرحون فكرة المسؤوليّات المشتركة -دائمًا- كما سيندبون المبالغة المُعتادة لوسائل الإعلام، مطالبين دائمًا بضرورة عدم رؤية سورية –والشرق الأوسط بشكل عام، ولكن أيضًا الصين وأوزبكستان…. الخ- بعيون غربيّة (حقوق-إنسانوّية)، وسيشيرون إلى تعقيدات تعداد الضحايا، والمخاطر المحيطة بالعلويّين فيما لو [….] وإلى ضرورة الأخذ بالحسبان وجهة نظر الآخر، كانت تلك وسيلة الدفاع الشرعيّة التي تبنّاها نظامٌ يهاجم بالأسلحة الثقيلة، ويعذّب في السجون متظاهرين سلميّين يطالبون، بطريقة غير مسؤولة، بالديمقراطيّة.

وأخيرًا هناك التعميميّون، وينطلقون من حسابات ضخمة -مستوحاة من بوفار وبيكوشيه، وتمّ تسليط الضوء عليها مؤخّرًا من جانب برونو تيتريه- عن استحالة الاستغناء عن روسيا، و (بكلّ تأكيد) عن جرائم الحرب التي ارتكبتها، أيضًا! ومن حسابات عن تنافس القوى الكبرى والتي تحوّل الشرق الأوسط إلى مكان قابل للانفجار، وعن الشرق المعقّد، وعن الإسلامويّة بشكل عام -وبشكلٍ خاص عن الانقسام إلى سنّة وشيعة- وعن الاحترام الذي لا غنى عنه للديمقراطيّة، وبالتالي عن إمكانيّة السوريّين اختيار حاكميهم -بالمناسبة تمّ انتخاب بشار الأسد بنسبة أعلى من 88.7 في المئة من الأصوات في عام 2014- وعن فشل الربيع العربي، وعن المسؤوليّة -التاريخيّة بالضرورة- لاتّفاق سايكس-بيكو…الخ

من الواضح أنّه قد تمّت إجابة كلّ هؤلاء آلاف المرّات، وذلك استنادًا إلى حقائق مبنيّة على اطّلاع، وإلى تقارير معدّة مباشرةً من المصدر، وبكلمة واحدة: تمّت إجابتهم بالحقيقة.

لكن لا مشكلة لديهم في ذلك، ففي اللحظة التي يجب فيها تبرير مجزرة -500 ألف قتيل خلال أكثر بقليل من خمس سنوات- أو تشجيع قائد بلاد لا يملك أيّ ضوابط لاستخدام القوّة الوحشيّة منذ غروزني، وتقديم جرائمه على أنّها معركة الدفاع عن الغرب، لا تغدو الحقيقة إلّا حيلة يستخدمونها؛ فلنمارس، إذًا الحقيقة بينما يقوم أولئك الإرهابيّون ذوو الوجوه الطفوليّة، والذين يلعبون الكرة في باحةٍ ما، أو ينحنون على كتاب في كهف لا يكاد يكون منارًا، أو يتقوقعون في سريرهم، و من ثمّ يتمّ تفجيرهم في ضجيج قنبلة عنقوديّة أو خنقهم بالفوسفور الأبيض.

تستحقّ الحقيقة، مثل هؤلاء الأطفال الإرهابيّين بالفطرة، فرقة إعدام.

أولئك، هم الأنذال.

هم لا يستحقّون صمتنا، بل يجب أن يكون صوتنا، في مواجهتهم، أعلى.
موت المجتمع الديمقراطي

لقد قِيل سابقًا، ولم يكن ذلك اعتباطًا، بعدم وجود ما يُسمّى، لسهولة التعبير، المجتمع الدولي. وكما قد كان في إمكاني التنبّؤ، منذ ست سنوات، بالتأكّل التصاعدي للمنظمات الدوليّة ذات الطابع السياسي. ومن الممكن، لنكون أسرع، شرح أسباب تلكما الحركتين بإعادة رسم (تأميم) إستراتيجيّات السياسة الخارجيّة (أي إعادة بناء الإستراتيجيّات وفقًا لمصلحة الدولة/ الوطن الدّاخليّة/ المحليّة، من دون حسبان المصلحة العالميّة/ الكونيّة- المترجم) وبضعف القيم المشتركة بين تلك المؤسّسات، ومجيء ما يسمّى بـ G-Zéro  (أي ظهور فراغ في القوّة على مستوى السياسات الدوليّة، سببها تراجع التأثير الغربي، والتركيز المحليّ للحكومات على تطوير بلدانها- المترجم)، وبعبارةٍ أخرى، غياب الدليل العالمي، وعدم مقدرة القوّة الكونيّة الوحيدة بانتشارها العسكري، الولايات المتّحدة الأميريكيّة، على القيام بالدور المناط بها. إنّ جُبن واشنطن في سورية قد يكون شاهدًا على النبوءة ذاتيّةالتحقّق بأنّ التاريخ الكوني الأميركيّ يتوقّف عند حلب.

04

الصورة: باريس تدين حمّام الدم في حلب، لكن لا يبدو أنّ هناك إمكانيّة لإيقافه. أمير الحلبي/ أ.ف.ب.

إلّا أنّ غياب ذلك “المجتمع” الدولي، لا يشكّل إلّا نسخة طبق الأصل لما يبدو أنّه القدرة على بناء مجتمعٍ، بشكلٍ عام، وأعني هنا مجتمعًا قِيَمًا.

لنعد إلى البديهيّات، بديهيّات الجريمة، والتي لا يمكن أن تكون موجودةً في عالمٍ:

  • يحترم الحقيقة، ومن دون شكّ يبحث عنها؛
  • يمتلك، وبشكل عام، فهمًا يكون، إلى درجةٍ ما، مشتركًا للخير والشر، أو على الأقل، ولكي نذكر من جديد الفيلسوفة “أرندت”، والتي تعدّ أنّ أفكار الخير والشر لها دلالة ومعنى؛
  • يميّز ما هو أساسي عمّا هو ثانوي؛
  • يتواصل بالمشاعر نفسها؛
  • يفصل القيم عن المصالح، وبتعبير آخر يفكّر، أوّلًا، بمقياسٍ كونيّ.

تكمن الصعوبة الأساسيّة، هنا، في القدرة على المحافظة على تلك المقترحات الخمسة مع بعضها بعضا؛ فتشكّل، خمستها، قوام ما أدعوه بالمجتمع الديمقراطي، ويبدو لي إنّ ردّة الفعل أمام الجرائم السوريّة تؤكّد على هشاشة مجتمعٍ كهذا.

كما تكشف تلك الجرائم عن لامبالاة نسبيّة أما الحقيقة، والتي، هنا كما في حالاتٍ أخرى، تزيد من قدرة البروباغندا على التدخّل، نسبيّة زائدة عن الحد فيما يتعلّق بمواضيع الخير والشر، كمثال قول بعضهم “نعم يموت مدنيّون بأعداد كبيرة، لكنّ ذلك في نهاية المطاف بهدف حمايتنا”، كما تكشف عن غياب التراتبيّة في سلّم الأهميّة لإدراك الوقائع –كإبدال برنامج تلفزيون الواقع بالنزاع السوري -، وغياب اتّفاق مشترك عمّا، بالمعنى الحرفي للكلمة، “يهيننا و يشتمنا”، ما يجعل الطابع الكوني غير مفهوم –نتعاطف مع ضحايا الاعتداءات الفرنسيّين، نعم، لكنّنا لا نستطيع أن نعاني، أيضًا، من أجل طفل سوري-

وهنا أقول، إنّ غياب تجربةٍ معاشةٍ للمعاناة، وغياب جرح شخصي يصيب تلك الأجساد السوريّة، تجعل مسألة ظهور مجتمع سياسي أمرًا غير وارد.

بوصولنا إلى هنا، طالت النسبيّة حتى مجال الحق، وأضحت الجريمة ضد الإنسانيّة ذات مرتبة ثانويّة، والعنف في أقصى درجاته شائعًا؛ تلكم هي الطريقة التي نحضّر بها للمستقبل.

لذلك، ولكلّ ما سبق علينا التكلّم من دون توقّف، لأنّ هذا سياسي، وحيوي.