لماذا غاب الشارع العربي عن التضامن مع الشعب السوري

18 أكتوبر، 2016

عبد الرحيم خليفة

تحولات عميقة طالت بنية المجتمعات العربية، لا تقف عند خلل البنى الاجتماعية والاقتصادية، جراء الفساد والنهب المنظم، والانفتاح الاقتصادي، بل تتعلق بانتشار قيم جديدة، وتعميم ثقافة مدمرة، كان لها آثار واضحة على ذهنية الإنسان وطرائق تفكيره وسلوكه، والتي تجلت بعدم المبالاة والاكتراث، على حساب القيم القومية الجمعية، وروابط الأخوة والإنسانية.

معظم القوى العربية الحالية ماضوية، ونتاج مراحل تاريخية انتهت، وبدون بروز قوى اجتماعية وسياسية تحمل مشروعات وخطابات منسجمة مع الواقع الجديد وقيم العصر والحداثة، وتبشر بثقافة حقوق الإنسان فليس هناك -في المدى المنظور- قوى قادرة على تحريك الشارع العربي، وإعادة الروح والحيوية له ليكون فاعلًا ومؤثرًا ومبادرًا.

لابد أن تتخلق قوى جديدة على قواعد ومفاهيم مغايرة، بعيدًا عن الايديولوجية العتيقة الجامدة، تعيد ارتباط المواطن العربي بمحيطه وفضائه، ليكون أولًا وأخيرًا، فاعلًا ومؤثرًا في أهم قضاياه الوطنية المصيرية، وأعقدها، ولا شك أن هذا الأمر تحد كبير يحتاج لوقت طويل.

بلادة الشارع العربي إزاء “القضية” السورية، تطرح تساؤلات عديدة عن عمق التحول الذي أصابه، وأصاب ذهنية المواطن العربي، في السنوات والعقود الأخيرة، وغيرت اهتماماته، من جراء اللامبالاة التي يتعاطى معها أمام ما تنقله وسائل الاعلام من أخبار وصور عن مشاهد الدمار والموت، وأهوال “الحرب”.

تبرير التقاعس الشعبي العربي لا يكفيه التذرع بانشغال الشعوب بقضاياها الداخلية وحزمة ملفاتها الوطنية الشائكة، من الرغيف الى الحرية، كما من غير المعقول تبريره بـ “تحولات” الثورة و”أخطاؤها” الكثيرة، وتعدد أوجه الصراع فيها، ولا يمكن تفسير الحالة، أيضًا، بانقسام السوريين أنفسهم وانحياز بعضهم للطاغية والدفاع عنه، والقتال الى جانبه، وتباين مواقفهم مما يجري في بلدهم، واصدار خطابات متناقضة في أحيان كثيرة لتفسير ما جرى ويجري، وتبريره.

ثمة ما هو أعمق وأبعد من ذلك، يستوجب البحث والتقصي، وعلى سبيل المثال، فقد فشل نداء (الغضب لحلب في يوم 30/ 9)، في الذكرى السنوية الاولى للغزو العسكري الروسي، ولم يتجاوب معه في عواصم العرب وحواضرها سوى ثلاثة تظاهرات محدودة العدد، في الخرطوم ونواكشوط وبيروت، على الرغم من أن النداء دعمته جهات مؤثرة مثل (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين).

قبل ستة أعوام حرك “الربيع العربي” وقبل أن يتحول خريفًا داميًا، المشاعر القومية، التي منيت بخيبة حادة بعد غزو العراق في 2003، واحتلال بغداد، فعد كثير من المحللين ثورات العالم العربي، وانتشارها السريع من بلد لآخر، وفي بلدان تتشابه نظمها من حيث البنية والسياسات العامة، دليلًا اضافيًا على “وحدة المصير، والمستقبل المشترك”. 

ففي دمشق، مثلًا، وقبل انطلاق الثورة السورية، خرج عشرات السوريين تأييدًا للثورة التونسية ثم المصرية، وأشعلوا الشموع ليلًا، كما أن أحد الجمع سميت “بشامنا ويمننا” في كل من سورية واليمن تعبيرًا عن توأمة بين ثورتي الشعبين، وهناك شواهد مماثلة عديدة التي يمكن تسجيلها في هذا السياق، إلا أنها أقل بكثير مما هو مأمول من الشارع العربي الممتد من (المحيط الهادر الى الخليج الثائر) مما أعاد طرح الأسئلة عن شيخوخة أو قنوط الشارع العربي وانفكاك أقاليمه عن محيطها وعمقها العربي.

لا يمكن إنكار أن قطاعات جماهيرية عربية واسعة وقفت مع الشعب السوري ودعمته، واحتضنته، وناصرت مطالبته بالحرية والكرامة، وقدمت الكثير من الدعم المالي والمعنوي، إلا أن تراجع هذا التأييد والدعم يعيدنا دائمًا إلى البحث في “الهوان العربي” الذي لقيه الشعب المنكوب، وإحساسه بالخذلان، كلما تفاقمت محنته، من أبناء جلدته الذي كان يناديهم أحد المنكوبين في حلب بحرقة وحسرة (أين أنتم يا أبناء جلدتنا)؟

يترافق ذلك مع بعض التصرفات والسياسات المذلة والمهينة في بعض دول اللجوء التي هجر إليها السوريون قسرًا.

في هذا الصدد، يمكن الوقوف عند ثلاثة اتجاهات في الشارع العربي، ربما، تفسر تقاعسه ولا مبالاته:

1- فريق لا يرى في الثورة، بعد أن تأسلمت، إلا صراعًا بين حركات إسلامية تتقدمها جماعة الاخوان، ونظام علماني مدني ذي توجهات “تقدمية”، أو “ممانعة” و”مقاومة” مستهدف بسبب توجهاته وبالتالي فكل ما يحصل “مؤامرة” خارجية. يضم هذا الفريق بقايا قوى اليسار المحنطة، والقوى القومية المنقسمة على نفسها، ولا يخفى هنا تبعية بعضها وارتباطه بالنظام السوري وحلفائه من حزب الله إلى إيران.

يسقط هذا الفريق عمدًا أو جهلًا موقفه الايديولوجي والسياسي من القوى الإسلامية في مجتمعه على مثيلتها السورية، ويتعاطى معها كامتداد لها في بلاده بطريقة تنم عن قصور في الفهم وسوء في التقدير.

2- انزلاق بعض قوى الثورة في صراعات محلية كمصر وتونس، يعيش بعضها حالة دموية وعنفية كاليمن والعراق وليبيا، وقلق بعضها من مصائر تشبه ما آلت إليه تلك البلدان، وهي أصلًا محكومة بالاستبداد والفساد، كالجزائر والمغرب والأردن.

3- قطاعات جماهيرية واسعة “تقليدية” في فهمها وتعاطيها مع الأحداث، مضافًا إليها شرائح واسعة أثخنتها جراح الهزائم، الفردية والجماعية، فانكفأت على نفسها ليصل احباطها حد التسليم بالغيبيات والأقدار، وانتظار المجهول.

في الواقع هناك تحولات عميقة طالت بنية المجتمعات العربية لا تقف عند خلل البنى الاجتماعية والاقتصادية، جراء الفساد والنهب المنظم، والانفتاح الاقتصادي، تتعلق بانتشار قيم جديدة، وتعميم ثقافة مدمرة، كان لها آثار واضحة على ذهنية الانسان وطرائق تفكيره وسلوكه، والتي تجلت بعدم المبالاة والاكتراث، على حساب القيم القومية الجمعية، وروابط الأخوة والإنسانية.

كما أن عجز النخب، وغياب دور المجتمع المدني، وفشل الأحزاب السياسية، إضافة لغياب المشروعات الوطنية والمشروع الجامع على مستوى الامة، لقد أدى كل ذلك لتراجع مريع ومهول في حركة الشارع وخذلانه.

ربما احتاج الآمر إلى دراسات أعمق في علم النفس والاجتماع للوقوف على أبعاد الحالة وتشخيصها، بشمولية وعلمية، لا يتسع لها هذا الحيز.

البعض تساءل عن غياب الأحزاب والحركات القومية، وحملها المسؤولية باعتبارها المعنية أكثر من غيرها بقضايا العروبة والفكر القومي العربي ودوائره، كما تطرح في خطاباتها ومقولاتها، ورغم أحقية ووجاهة التساؤل إلا أنه متحامل وقاصر، ومن باب الانصاف والعلمية يجب أن يكون السؤال عامًا وشاملًا لجميع القوى والتيارات السياسية، الاسلامية والوطنية والليبرالية واليسارية، فالشارع ليس قوميًا وحسب، بل إنه متعدد ومتنوع، ولا يعفى من هذه المسؤولية طرف أو اتجاه تحت أي مبرر أو حجة.

هل فشل قوى الثورة بتصدير خطاب وطني جامع، وفقدانها لاستراتيجية واضحة في تحركها، وسياساتها، كانت سببًا في ذلك؟ ربما.

يمكن في هذا الصدد الاشارة لخطأ كبير وقعت فيه قوى المعارضة السورية على المستوى الاقليمي والدولي باقتصار توجهها وحراكها على دوائر صنع القرار، كوزارات الخارجية أو الحكومات والبرلمانات، وتغافلها عن مد الجسور والصلات خارج المؤسسات الرسمية، إلا بالحدود الدنيا.

حتى تستوفي هذه الاحاطة شروطها، لا يجب أن يغيب عن الذهن مواقف شعوب “العالم الحر” التي لم تكن أحسن حالًا من مواقف الشعوب العربية، إنما لأسباب مختلفة، مقارنة بمواقفها من غزو العراق، والحرب على أفغانستان أو لبنان أو غزة، مع الإشارة لبدء تحرك أوربي – عالمي تحت شعار (أوقفوا الحرب)، من المبكر الحكم على فعاليته ونتائجه.
تساؤلنا في هذا المقال عن أسباب تقاعس الشعوب العربية هو ذاته مطروح في الاعلام الأوربي عن لا مبالاة المجتمع المدني الأوربي، وازدواجية قيمه ومعاييره.

قصارى القول، معظم القوى العربية الحالية ماضوية ونتاج مراحل تاريخية انتهت، وبدون بروز قوى اجتماعية وسياسية تحمل مشروعات وخطابات منسجمة مع الواقع الجديد وقيم العصر والحداثة، وتبشر بثقافة حقوق الإنسان فليس هناك في المدى المنظور قوى قادرة على تحريك الشارع العربي، وإعادة الروح والحيوية له ليكون فاعلًا ومؤثرًا ومبادرًا.
لابد أن تتخلق قوى جديدة على قواعد ومفاهيم مغايرة، بعيدًا عن الايديولوجية العتيقة الجامدة، تعيد ارتباط المواطن العربي بمحيطه وفضائه، ليكون أولًا وأخيرًا، فاعلًا ومؤثرًا في أهم قضاياه الوطنية المصيرية، وأعقدها، ولاشك أن هذا الأمر تحد كبير يحتاج لوقت طويل.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]