‘بوتين في سورية: الشيشان مرّة أخرى’

19 أكتوبر، 2016

أنس عيسى

في الصورة: قلعة حلب الأثريّة في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014. جورج أورفليان/ رويترز.

الفرق بين حلب الآن وغروزني، عاصمة الشيشان، عند بدء الألفيّة هو أنّ قادة الغرب يحاولون، على الأقل، إنقاذ السوريين العالقين في المدينة المحاصرة، فقبل عقد ونصف من الزمن، كان هناك القليل من البعثات الدبلوماسيّة في الشيشان. وخلال بضعة أشهر من تولّيه مقاليد السلطة، بينما اكتفى قادة العالم في معظمهم بالفرجة، قام فلاديمير بوتين بالتحرّك بشكلٍ حازم لاستعادة السيطرة على الشيشان -والتي كانت قد تحرّرت من سيطرة موسكو إبّان حرب قصيرة، ولكنّها مؤذية، في أواسط التسعينيّات-.

من ناحية أخرى، فإنّ الصورة متشابهة إلى حدّ كبير؛ حيث يعرف، الآن، السيّد بوتين، كما عرِف وقتها، أنّه ووكلاءه لا يستطيعون الانتصار على الأرض، لذلك فإنّهم يحاولون حلّ مشكلتهم من الجو، هو يرمي المتفجرات هناك حيث لا تستطيع القوّات البريّة الذهاب.

لكن، وبالتأكيد، فإنّ السيّد بوتين ليس وحيدًا في ذلك؛ حيث يحاول قادة الغرب، أيضًا، حلّ الإشكاليّات المعقّدة من دون المخاطرة باحتكاكٍ عن قرب، ولكن يمتلك السيّد بوتين أفضليّة على منافسيه؛ حيث لا يوجد تقريبًا أيّ صحفيّين أو سياسيّين أو ناشطين في روسيا يدفعونه لتجنّب استهداف المدنيّين في حلب، تمامًا كما لم يكن هناك الكثير من التعاطف، في روسيا، مع المدنيّين العالقين في غروزني بينما كانت الصواريخ تدمّر المدينةَ.

يعدّ هذا النوع من الصمت على الجبهة الدّاخليّة مساعدًا لشخصٍ يبحث عن ربح صراعٍ ما، حيث أنّك تعدّ في موقع قوي إن استطعت قصف مشفى، ثمّ مشفىً آخر، وثمّ اثنين إضافيّين، من دون أن يتدخّل أيّ شخص في بلدك، وبشكلٍ علني، لإيقافك، ويعود الفضل في ربح السيّد بوتين لحرب الشيشان إلى القصف القاسي من دون هوادة لغروزني.

صُدِم من زار بيننا مدينة غروزني، بعد الحرب، بسبب حجم الدمار، فقد أصبحت عبارةً عن فدادين من الأبنية المهدّمة، والمصانع المنهارة والحواجز الممزّقة. يقترح بعضهم اليوم –كما فعلت روسيا في الأسبوع الماضي- أنّ البلدان الغربيّة على القدر نفسه من السوء، لكنّ ذلك ليس صحيحًا؛ فلو قامت أيّ حكومةٍ غربيّة بفعل ما قام به السيد بوتين في غروزني، أو ما يقوم بفعله الآن في حلب، لسقطت، ولكانت تستحق ذلك.

في الصورة: قلعة حلب الأثريّة، كما بدت في عام 1997.

لا تحتاج الحكومة السوريّة إلى دروس في القمع الداخلي، لكن في استطاعة موسكو تزويد سورية بموارد لم تمتلكها من قبل؛ ففي استطاعة الحكومة الروسيّة مساعدة السيّد الأسد بسحق السوريّين المعتدلين، والذين يُعدّون النوع من الناس الذي قد يلتمسه الغرب لبناء حركة حولهم، وذلك في حال بقائهم في البلاد. هذا ما قد فعله السيّد بوتين في الشيشان، عندما قامت قوّات أمنه بتصفية كلّ من لديه الكفاءة والجدارة للتفاوض، واحدًا تلو الآخر، ولم يعش من قادة المعارضة عمرًا طويلًا إلّا أولئك المتعصّبون، والذين يقودهم غضبهم وفهمهم المنحرف للإسلام، حيث قاموا بإرسال النساء المصدومات نفسيًّا لتفجير أنفسهنّ في شوارع موسكو، أو لمهاجمة أهدافٍ “ناعمة” –كمدرسة أو مسرح أو حفلة موسيقيّة، قادت فظاعة تلك العمليّات إلى تسويد صفحة قضيّتهم، وإلى منح شرعيّة أكبر لحلفاء السيد بوتين، وتقليل التعاطف مع ضحاياه.

وعلى الرغم من أنّ السيد بوتين لا يحتاج القلق فيما يتعلّق بالرأي الداخلي، فإنّه يهتمّ بشكلٍ كبير بما يفكّر العالم فيه، فقد كانت الانتقادات الأجنبيّة لسياسته في الشيشان قد أغضبته لدرجة أنّه قد قدّم، خلال أحد المؤتمرات، عرضًا بإخصاء صحفيّ فرنسي، وإن نجح في فرض السلام في سورية، حتّى لو كان ذلك على حساب تسوية مدينة حلب في الأرض، فإنّه سيحاول إضفاء الشرعيّة على نصره، عن طريق إضفاء غطاءٍ خارجي عن عمليّة سلام حقيقيّة وديمقراطيّة، كتلك في إيرلندا الشماليّة، أو في جنوب إفريقيا.

يتحدّث المسؤولون الروس عن تقدّم السيد الأسد إلى الانتخابات حالما يتمّ تبنّي دستور جديد، هم قاموا بتأليف دستور جديد للشيشان أيضًا، واحتضنوا انتخابات رئاسيّة هناك في عام 2003، عندما انتهى القتال. عندها، تمّ استبعاد كل المرشّحين ذوو الشعبيّة الكفيلة بتهديد مرشح السيد بوتين المفضّل، لذلك كنّا نعرف، مسبقًا، من كان سيفوز قبل الرمي بأوّل ورقة اقتراع، لقد كنت قد أمضيت ذلك اليوم في الشيشان لكنّي لم أشاهد كيف كان الشعور الحقيقي للشيشانيّين؛ حيث كانت رؤيتي محدودة بسبب مرافقة الجنود الروس التي كان علينا، نحن الصحفيّين، أن نقبلها استنادًا للقانون.

لطالما فهم السيد بوتين أهميّة رسائل التواصل؛  ففي البدء قامت إدارته فقط بتخويف الصحفيّين الناقدين، وسيطرت على منافذ الإعلام، ومن ثمّ، بعد استقرار الوضع في الشيشان، قام بالابتكار عندما أنشأ، في عام 2005، القناة الناطقة باللغة الإنكليزيّة: روسيا اليوم. تعمل تلك القناة كنقطة التقاء للأصوات المهمّشة والمُهملة من قِبل ما يُطلقون عليها: “وسائل الإعلام الرئيسيّة”، كما لو كان في مقدور محطّة تلفزيونيّة مموّلة من جانب عضو دائم في مجلس الأمن في الأمم المتّحدة أن تلعب دور “الصوت المختلف الشجاع”. تتعامل تلك المحطّة مع الحقائق بوصفها إشكاليّات، وتقوم بإخراج أيّ رواية لإظهار الغرب على أنّه فاسدٌ، منسحبٌ أو ازدواجيٌّ.

يُعدّ نجاح “روسيا اليوم” في تشويش وتعكير المعلومات بلا حدود، فلا تزال تروّج لرسالة السيد بوتين بأنّه يقصف السوريّين لمصلحتهم، تمامًا كما قصف الشيشانيّين، وبأنّ الحرب هي السلام. يبدو ذلك قاسيًا، ولكن في عالم متشظٍّ سياسيًّا، تظهر أهميّة الرسالة الإعلاميّة.

ظهر، هذا العام، دونالد ترامب على تلك القناة، كما فعل مسؤولون قياديّون من بريطانيا وغيرها، ليثبتوا فكرة أنّ الحقيقة ليست عبارة إلّا، بشكلٍ أساسي، عن سرابٍ.

يقوم معجبو السيد بوتين بتشبيهه بلاعب شطرنج، كطريقةٍ للتأكيد على ذكائه الإستراتيجي (بصعوبة بالغة يلعب باراك أوباما الضامة)، ولكنّ في ذلك مبالغة في تقدير قدراته، ففي إمكان أيّ رجل سياسي ذي قدرات متوسطة القيام بما يفعله بوتين، خصوصًا في ظلّ وجود إعلام متواطئ، والسيطرة على سلطات الحكومة الثلاثة، لكن يتجلّى تشبيهه بلاعب شطرنج في إصراره على الربط بين قضايا غير مترابطة: كسورية، وأوكرانيا والبرنامج الروسي الأميريكي المشترك للتخلّص من المواد المشعّة، كل تلك القضايا عبارة عن أحجار على رقعته، مجهّزة للتضحية من أجل المصلحة الفضلى للاعب، أي هو نفسه.

إذا سمحت قنابل السيد بوتين لوكلائه بالسيطرة على المربّع الموجود على الرقعة والمسمّى سورية، فسينال الإشادة من معجبيه الغربيّين بكونه عبقريًّا، لكن ذلك الانتصار سيكون نتيجة لضعفه بمقدار كونه نتيجة لقوّته، فرؤية العالم كلعبة شطرنج يعني أنّه يعتقد أنّ الرقعة مليئةً ببيادق وليس ببشر لهم أفكارهم الخاصّة.

اعتقد السيد بوتين أنّه قد أقنع، في خريف 2013، الحكومة الأوكرانيّة برفض اتفاقٍ تجاريٍّ مع الاتّحاد الأوروبّي والانضمام إلى اتّفاق روسيٍّ بدلًا عنه، ومن ثمّ وعد بمنح قرض قيمته 15 مليار دولار أميريكي، ولكن لم يتماشَ ذلك الاتّفاق مع الأوكرانيّين العاديّين –الذين رفضوا أن يكونوا بيادق- وقامت ثورتهم بطرد حلفاء بوتين في كييف، محوّلين انتصاره التكتيكي إلى هزيمة إستراتيجيّة.

وفي السنوات التي تلت بدء السيّد بوتين حربه في الشيشان في عام 1999، قام بقتل القائد الشيشاني وفرض السلام عن طريق رجلٍ قويٍّ محلّي. قادت الوحشيّة اللازمة للمحافظة على النظام، منذ ذلك الحين، إلى دفع ما لا يقل عن ثلث سكّان الشيشان ما قبل الحرب إلى ترك البلاد، حيث ذهب معظمهم لطلب اللجوء في أوروبا، ويستمرّ ذلك النزوح حتّى يومنا هذا، ولا تزال الشيشان في حاجة إلى دعمٍ ماليّ سنويّ هائل من موسكو، ولا يزال السلام فيها على بعد اغتيال واحد من الفوضى.

سيسمح قصف مدينة حلب لإخضاعها، ومن ثمّ فرض الأسد رئيسًا على الأنقاض من خلال انتخاباتٍ زائفة، للسيّد بوتين وقناة روسيا اليوم على إظهار أنّه قد تمّ حلّ مشكلة سورية، ما سيعطي الكرملين ووكلاءه الغربيّين الفرصة لمدح دهاء سيّدهم العظيم، لكن لا يمكنك قصف شخص ما لجعله يحبّك، ومادام بوتين يفشل في إدراك حقيقة أنّ رغبات الناس العاديّين أكثر أهميّة من رغباته الشخصيّة، سيبقى كلّ نظام يبتدعه بهشاشة النظام الذي بناه في الشيشان.

 

عنوان المادة الأصلي بالإنكليزية Putin in Syria: Chechnya All Over Again اسم الكاتب بالعربية والإنكليزية أوليفر بولو

OLIVER BULLOUGH مصدر المادة أو مكان نشرها الأصلي The New York Times تاريخ النشر 11 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2016 رابط المادة http://www.nytimes.com/2016/10/12/opinion/putin-in-syria-chechnya-all-over-again.html?_r=0 اسم المترجم  أنس عيسى

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

19 أكتوبر، 2016