ثلاثة وحوشٍ أثريَّة
19 أكتوبر، 2016
مصطفى تاج الدين الموسى
عزيزي القارئ، لا أنصحك أن تقرأَ قصتنا هذه:
خرجتُ ظهرًا من غرفتي، متجهًا إلى المقهى المتواضع القريب، حيث يجتمع فيه كلّ نهار عشرات السوريين من النازحين إلى هذه المدينة التركية الحدودية؛ ليتبادلوا أخبار المعارك في الداخل، وأسعار العملات والسجائر وأنواع الأدوية، ثمّ يختلفوا حول فتاوى الحرب، وكأنهم مرجعيات دينية.
شاهدته مصادفة، كان جالسًا وحده إلى طاولة بعيدة، لم يكن سابقًا صديقي، التقينا بضع مرات على عجل قبل الحرب.
صافحنا بعضنا بعضًا بحرارة، جلستُ أمامه لنشرب معًا القهوة وندخن ونتبادل المعلومات حول أصدقاء مشتركين، لم نشاهدهم خلال سنوات الحرب.
أخبرني أنه قد تزوج ولديه طفلة، وترك عائلته في إسطنبول؛ حيث كان يعمل حمّالًا في سوق الحبوب، لكنه هجر هذا العمل المتعب منذ أيام، وجاء إلى هذه المدينة الحدودية؛ ليجرب حظه في التجارة.
– سوف تصلني البضاعة مساء اليوم أو صباح الغد، أيوجد هنا فندق متواضع أنام فيه الليلة؟
– تعال معي إلى غرفتي. إنها قريبة، نهاية هذا الشارع، عيب يا رجل. أولاد حارة واحدة نحن، أنت ضيفي الليلة.
عندما دخل غرفتي ابتسم وهو يتأمل زجاجات الخمر الفارغة والمتناثرة فوق الطاولة.
– أحسدك يا صاحبي. لم تتغير، جميعهم تغيروا، أنا لا ألومهم لكن أسايرهم -صمت ثمّ أردف بهدوء- الحرب لعينة، شوّهت الناس. أحيانًا، القتيل يصيرُ مخيفًا أكثر من القاتل بالنسبة لقتيلٍ آخر.
تقاسمنا الابتسامة الشاحبة ذاتها.
في المساء أعددتُ بعض الأطعمة بسرعة، وسكبتُ كأسين من هذا الخمر الرخيص فوق طاولتي، وبدأنا نشرب ونحن نتبادل الفكاهات.
كان منشغلًا بهاتفه الجوال، تصله رسائل ويرسل أخرى، بينما وجهه يتضايق شيئًا فشيئًا، بعد بضع كؤوس تمتم بحنق وهو يتأمل رسالة جديدة:
– اللعنة على المهربين، لن تصل البضاعة حتى مساء الغد، حقراء.. يتحكمون بنا ليرفعوا أجرتهم، تفو عليهم.
– مهربون؟!
انتبه إلي، قال مترددًا:
– أنا، أنا أعمل بتهريب الأدوية -تنهد ثمّ قال بثقة مفتعلة- لدي عائلة يا صاحبي، وتعبتُ من العمل بسوق الحبوب، طفلتي ليس لديها ألعاب، هذه ليست حياة، لا أريد أن أظل هكذا.. كلّ الناس استفادتْ من الحرب، لنستفد نحن قليلًا.
لم أهتمَّ لكلامه، الأمر لا يعنيني.
في اليوم التالي خرج بعد استيقاظه، غاب لساعات، لكنه رجع إلى غرفتي مساءً، كان متضايقًا للغاية، جلس ليشعل بنزق سيجارة، وهو يشتم بكلمات بذيئة أمهات المهربين…
– لن تصل البضاعة حتى صباح الغد، يلعبون بأعصابنا لندفع لهم أكثر.
ذهب ليغسل وجهه، أعددتُ طعامًا متواضعًا وسكبتُ كأسين، جلس أمامي لنشرب معًا، تحدثنا عن حارتنا، عن أبنية دمرتها الحرب وأخرى كانت محظوظة، عن شوارع لعبنا فوقها بالكرة لعبت بها القذائف، عن جيران: منهم من قتل ومنهم من هاجر ومنهم من خطف ومنهم من بقي مكانه.
شرب كثيرًا، كان مهمومًا، بدأتْ الرسائل تصل إلى هاتفه ليرسل غيرها.
كنتُ أتأمل حزن عينيه، ثمّة دمعة في عينه، بجانبها طفلة لا ألعاب لديها، راحتْ تلهو بأن تلعب بدمعة والدها، داخل عينه.
– روق.. لا تعلِّق كلّ هذه الآمال على تهريب الأدوية، مكاسبها ليستْ كبيرة كما تظن.
تجرع كأسه كلّه، رمقني بخوف.. عبث بهاتفه، ثمّ رفعه إلى وجهي، على شاشته ثمّة صورة لعدة منحوتات أثرية، تتوسطها تماثيل صغيرة لثلاثة وحوش حجرية شكلها مخيف.
– في الحقيبة التي ينوي الشباب تهريبها لي، تحت الأدوية، توجد هذه الآثار. ثمنها يكفيني ويكفي الشباب بالداخل مع عائلاتنا سنة كاملة.
– تهريب آثار؟!!
– بجانب المتحف، دارت معارك قاسية لأيام بين أهلنا وأولئك الحقراء -شرح لي- ثمّ تقاسموا الآثار بينهم وهرب كل طرف إلى الجهة التي تناسبه، من عندنا ومن عندهم جاء إلى المعركة آخرون، ما زالوا ينتظرون –معًا- دورهم في الموت أو في ما تبقى من الآثار، لا تصدق نشرات الأخبار لدينا ولديهم.
لم أستطع أن أنطق بحرف، لساني كان جثة وفمي تابوت، رمقته بكراهية؛ فسكب لنا كأسين وهو يشعر بالخجل، مال مقهورًا:
– لا تغضب مني يا صاحبي، الإنسان القديم نحت مخاوفه، ونحن سوف نبيع هذه المخاوف القديمة للأوروبيين، البلاد انتهتْ منذ زمن، أنت نزحت باكرًا، البلاد لم تبقَ سوى في خيالك.
حاصرته بنظراتي القاسية، شرب بنهم، ذبحه الخجل، تمنى لو أقول كلمة، لو أشتمه، لو أصفعه.. أردف بحزن مخمورًا:
– من المعيب أن تظلّ هذه الآثار بخير، والإنسان ليس بخير، لأنها ظلّه.
– لمن سوف تبيع هذه الآثار؟!
مرتبكًا متلعثمًا تمتم بخوف:
– تعرفتُ في إسطنبول على تاجرٍ يهودي، أبيعها له وهو يأخذها إلى أوروبا.
صفعة قاسية لا مرئية على وجهي أدارته عنه، تسارعتْ أنفاسي.
بكى بمرارة، صار يهذي:
– أريد ألعابًا لطفلتي، الألعاب أهم من الآثار بالنسبة للأطفال.. اشرب، اشرب، نحن أطفال.. نحن أطفال..
رميتُ جسدي على سريري وأنا أسمع صوت أذان الفجر.
شاهدتُ في منامي وأنا شبه نائم، تجارًا من اليهود يسرقون ألعاب أطفالنا، ثمّ يهربونها إلى أوروبا ليبيعوها للأثرياء هناك على أنها وحوش نحتها خوفٌ قديم.
عندما استيقظتُ لم أعثر عليه، تسليتُ بتنظيف وترتيب غرفتي حتى المساء، جاء وصار يخبط على بابي بصخب.
عندما دخل كان معه عاصفة فرح، صرخ بوجهي:
– وصلتْ الحقيبة في الصباح، أرسلتها إلى التاجر اليهودي، استلمها منذ قليل وحوَّلَ لي النقود، صرتُ ثريًا يا صاحبي.
كان يرقص كمجنون بينما أنا أراقبه كأبله يتأمل فيلمًا وثائقيًا تاريخيًا من دون أيّ انفعال، وكأن التاريخ كلّه لا يعنيه بشيء.
– تعال معي، لنذهب إلى الحانة، خمرك كريه ورخيص، سوف نشرب الليلة أغلى الخمور في العالم.
شدّني من ساعدي لنمشيَ إلى الحانة القريبة، أوقف سيارة أجرة واتفق مع سائقها أن يمرّ منتصف الليل بالحانة ليأخذه إلى إسطنبول، دفع له بسخاء.
في الحانة، شربتُ الملل مع الخمر الغالي، وهو شرب الفرح مع ذات الخمر همس لي بثقة:
– لماذا لا تعمل معنا، كل أسبوع أو أسبوعين هناك حقيبة؟
– ليس لدي طفلة، لتتساوى في أحزاني الألعاب والآثار..
زفر منزعجًا، لم يهتم لكلامي، حتى منتصف الليل شربنا كثيرًا، جاءتْ السيارة، فركب خلف السائق كرجل أعمال مخمور، لوّح لي مودعًا ومضى.
شربتُ وحيدًا، فكرتُ بالبلاد والناس والحرب، كاد رأسي ينفجر، نهضتُ متعبًا لأجرّ رجليّ إلى غرفتي القريبة، أمام بابها رنّ هاتفي الجوال. أخرجته من جيبي، إنه هو! ماذا يريد هذا الأحمق؟
بصوت يخنقه خوف عظيم، قال لي همسًا على الهاتف:
– أتذكر تلك الوحوش الأثرية الثلاثة، أحدها؛ وبشكلٍ أضخم، يجلس جواري الآن في السيارة…
ضحكتُ، يا له من مخمور، أغلقتُ الهاتف ودخلتُ غرفتي، أنرتها… شهقتُ وأنا أتراجع ببطءٍ كعجوزٍ خائف إلى الخلف.
أمامي، منتصف غرفتي، وبشكلٍ أضخم –أيضًا- كان وحشٌ مخيف يرمقني بقسوة؛ وحشٌ آخر من تلك الوحوش الأثرية الثلاثة.
حدث هذا لنا منذ شهرين واختفينا بعدها بشكلٍ غامض أنا وصاحبي، لكن، لا أحد انتبه لاختفائنا سوى قلّة، من لديه وقت لينتبه لاختفاءٍ غامض لنازِحَين من الحرب؟
عزيزي القارئ، لقد نصحتك منذ أكثر من 990 كلمة ألّا تقرأ قصتنا هذه، ولأنك قرأتها توًا أنت متورط معنا.
الآن سوف تسألني ساخرًا ببلاهة: أين الوحش الأثري الثالث؟
عندما تنتهي من قصتنا هذه، التفت إلى يمينك، سوف تشاهده الآن جانبك يرمقك بنظرات قاسية ومتوحشة.
عزيزي القارئ، من كلّ قلبي، أتمنى لك اختفاءً غامضًا.
———– الريحانية: 16/10 /2016 —–
[sociallocker] [/sociallocker]