علي العائد يكتب: من الموصل إلى الرقة: ‘جمالنا غرَّبنْ في الشام وما جنُّا’


علي العائد

الموصل ليست مجرد جغرافيا في العراق، إنها جغرافيا سـورية أيضا، كما أن دير الزور السورية جغـرافيا عـراقية. لكن سايكس بيكو أجرى جراحة في جغرافيا “سوراقيا” قبل رسم الحدود بين البلدين وتشكيل “الدولتين”، فنفط الموصل الواعد وقتها رجح كفة بريطانيا المنتدبة على العراق، وكافأ فرنسا بدير الزور التي لم يُكتشف فيها النفط إلا في الثمانينات من القرن الماضي.

لعل تجـار حلب والموصل بكـوا وقتها على فصل التوأمين التجاريين في الشرق، فخبراء النسيج الموصلي، وأقرانهم في حلب، كـان يمكن أن يشكلوا قـاطرة اقتصـادية تجارية أهم مما شكلته ليون الفرنسية في صناعة الحرير، وربما أعادت الروح لطريق الحرير التاريخي، ليمر منهما في عصرنا.

الآن، ليس هنالك توأمة بين الموصل وحلب، فالتوأمة الآن بين الموصل والرقة، من باب النسيج الشيطاني لتنظيم الدولة الإسلامية، الذي سيطر تماماً على محافظة الرقة، ومدينتها، في نهاية أغسطس 2013، وعلى الموصل في 9 يونيو 2014.

مع ذلك، بدأت معركة الموصل قبل معركة الرقة، وهو ما يؤشر على أن كل الطرق في ما سيأتي ستؤدي إلى الرقة، بدأها داعش بالانسحاب إليها، وربما بعد شهور سيتشكل تحالف مماثل لطرد داعش من الرقة إلى لا مكان.

بين الموصل والرقة توجد دير الزور، التي يحتل داعش معظم مساحتها، بما فيها آبار النفط. لا أحد يتوقع الآن ترتيب معركة دير الزور بعد الموصل، إن كانت قبل الرقة، أو بعدها.

لا شك أن السيـاسيين المحليـين والعالميين، سيفتقدون داعش إن تبخر في يوم مـا، فلا شيء أكثر تسلية من البروباغندا التي يصدرها للإعلام الذي يعتاش بدوره على إيقاع وحشية التنظيم الذي اختطف حياة النـاس في مناطـق يسيطر عليها منذ سنوات. فالأميركان، أنفسهم، لم يقرروا بعد إن كانت إزالة التنظيم أولوية، أم أنها تحصيـل حاصل. والمـوقف الروسي من داعش لا يختلف في شيء عن موقف أميركا.

في المنطقة العربية، أكثر شركاء داعش سعادة هو النظام السوري، حتى لو برأنا هذا النظام من اختلاق داعش، فوجود التنظيم ضمانة لادعاءاته أن جوهر الثورة عليه هو قوى أصولية ظلامية يقف داعش في مقدمتها.

البيشمركة يعتبرون سهل نينوى والموصل جزءا من كردستان العراق، والحشد الشعبي يَعُدُّ أهالي الموصل حاضنة لداعش، بينما لا يملك الحشد الوطني المدرب من تركيا إلا وجوداً رمزياً بالمقارنة مع عدد وعديد القوات الأخرى، بما فيها الجيش العراقي متعدد الولاءات.

المعركة ستكون أسرع حتى مما توقعه الأميركان، حتى لو توخت القوات المهاجمة كل أسباب الحذر وأبطأت من تحركها خوفاً من المفخخات والكمائن. لكن الأميركان وطيـران التحالف الدولي وضعوا في خططهم ترك “طريق آمنة” لانسحاب داعش باتجاه دير الزور، ومنها إلى الرقة. وبالفعل، بدأت عائلات من داعش في الوصول إلى الرقة منذ أيام، وفق مصادر خاصة من المدينة.

ينتشر داعش في مناطق سيطرته في سوريا على مساحة لا تقل عن 40 ألف كيلومتر مربع (أكثر من نصف الرقة البالغة 19 ألف كيلومتر مربع، ومعظم مساحة دير الـزور البـالغة 33 ألـف كيلومتر مربع، ومـدينة الباب ومحيطها شرق حلب)، ما يعني أنه مرتاح في الحركة، ويمتلك زمام المبادرة في اتجاه ما يجاور مناطق سيطرته. حتى انسحـابه من الموصل لا يعني أن القوات المنتصرة ستكون في أمان من تكتيكات حرب العصابات التي يعتمدها داعش.

ستة آلاف مقاتل داعشي، على الأكثر، في تقديرات أميركية، حكموا مدينة الموصل التي تعد أكثر من مليون ونصف المليون ساكن، أكثر من سنتين، حتى تطلب القضاء عليه أو طرده جيشا يعد 60 ألف مقاتل، مجهزين بأحدث الأسلحة ومدعومين بطيران التحالف وأجهـزة استخباراته. لكن هذه المعركة محددة ضمن جغرافيا العراق، دون أن يرشح حتى الآن إن كان في نية أعداء داعش التحضير لمعركة مماثلة ضد داعش في سوريا؛ فأميركا تخجل مـن تعاون عسكري مع النظام السوري، كما تعاونت مع حكومة حيدر العبادي في العراق، كون واشنطن أعلنت في وقت مبكر من عام 2011 فقدان النظـام السـوري شرعيته، وكـادت توجه له ضربة عسكرية في سبتمبر 2013. وروسيا ليست في وارد التدخل البري في سوريا عموما، وضد داعش خصوصاً. أما النظـام، فعدا عن أنه منشغل بمقاتلة الفصائل المعارضة المعتدلة، وأنه ترك مقاتلة “جبهة فتح الشـام” للميليشيات العـراقية والإيـرانية، فإنه غير مستعجل لمحاربة داعش، كونه يحتل مناطق من “سوريا غير المفيدة” فقط.

في أيام الصبا، عاصرتُ آخر صادرات العراق إلى الشام، مقاما عراقيا شجيا بالحنين إلى أرض الشام، من الجزيرة الفراتية، ومن بغداد والناصرية، مع “خسف تمر البصرة”، المعبأ في خيش أو قنب، مبطن بسعف النخيل.

كان الشجن عراقياً: “يا زارع البزرنكوش دِ ازرع لنا حنة.. وجمالنا غربن للشام وما جنَّا”.

تلاعب يوسف عمر بمقام النهوند، دون الكلمات التي تدور حولها أسطورة صغيرة تنتهي إلى أن بيئة العراق لم تكن مناسبة لزراعة البزرنكوش، لكن الإيقاع اختلف حسب العصر مع المغنين الجدد: “… وجمالنا غربن وا ويلي.. في الشام وما جنا.. جنا جنا جنا.. ومحملات بذهب وا ويلي.. فوك الذهب حنة.. حنة حنة حنة”.

إقحام الشام في الأغنية له ما له في الوجدان العابر للحدود بين البلدين، على الرغم من أن البزر ينتمي إلى جمهورية أنغوشيا القوقازية، المنتمية الآن إلى روسيا الاتحادية، والتي كانت ولاية شمالية في عهد الدولة العثمانية.

انتشار المعازف وسماع الموسيقى من العلامات الصغرى ليوم القيامة، حسب نسخة الإسلام الداعشي، ومن غير المرجح أن يغني داعشي حنيناً وانتظاراً لجماله التي “غربت في الشام”؛ الأرجح أن جمال داعش ستستقر في الشام إلا إذا “.. دك الحديد أعلى الحديد وا ويلي.. تسمع له رنة.. رنة رنة رنة”. و“دك الحديد أعلى الحديد” يعني خياماً ومشردين وجوعى عطشى، ودمارا، فالناس في العراق وسوريا سينتقلون من دمار داعش الصغرى، إلى دمار أعداء داعش ذي الحجم الكبير.

المصدر: العرب

علي العائد يكتب: من الموصل إلى الرقة: ‘جمالنا غرَّبنْ في الشام وما جنُّا’ على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -


أخبار سوريا 
ميكرو سيريا