الدولة الديمقراطية العلمانية ضرورة وليست خيارًا


علاء الدين الخطيب

في مقالي السابق (على شبكة جيرون) (1)، ناقشت ضرورة وصول السوريين، خلال السنوات المقبلة، إلى صوغ توافق حول شكل الدولة السورية المستقبلية، كخطوة أساسية لإنقاذ سورية؛ لأن الصراع الدولي في، وعلى، سورية، لن يؤدي إلى حل في سورية خلال سنين طويلة، والحل الوحيد هو قرار شعبي سوري، تؤيده نسبة معقولة من السوريين؛ فلماذا “الدولة الديمقراطية العلمانية”؟

ما يجب علينا الانتباه له، ونحن نناقش الشكل الأمثل للدولة، هو أن الزمن يسير بتسارع كبير، مقارنة بما كان عليه قبل قرن أو قرنين أو عشرة قرون، وهذا التسارع نراه في العلم كأوضح مسار لتسارع المعرفة البشرية، فلقد احتاجت البشرية عشرات الآلاف من السنين لتخترع العجلة، ثم آلافًا من السنين لتخترع الآلة، ثم مئات من السنين -بعد ذلك- لتكتشف الكهرباء والجراثيم، ثم بعد عشرات السنين قلبت نظرية النسبية العالم رأسًا على عقب، واستمرت عجلة الخروقات العلمية بتسارع هائل، فيمكننا الادعاء أن جيل الخمسينيات حاليًا شهد تطورات علمية وتقنية، تعادل ما رأته كل أجيال البشرية سابقًا.

لم يكن توسع وتسارع المعارف البشرية مناطًا بالعلوم الطبيعية وحسب، بل ترافق ونشأ مع تسارع تغيّرات التركيبة المجتمعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية للمجتمعات البشرية؛ فقبل قرون كان ممكنًا لعائلة حكم شمولية أن تتوارث الحكم المطلق عبر مئات السنين في الصين، أو روسيا أو بغداد أو لندن، وقبل أربعين سنة، كان ممكنًا لديكتاتورية شيوعية أيديولوجية أن تضع الاتحاد السوفياتي في قمة القوة والسيطرة عالميًا، وأن تبدأ إندونيسيا بالصعود الاقتصادي مع حكم الديكتاتور سوهارتو، وأن تحقق السعودية، الدولة المؤسسة على قواعد دينية مذهبية قبلية وعائلية، استقرارًا وأمانًا كبيرين لعشرات السنين.

ترافق تطور المعارف البشرية مع تطور الأفكار والبديهيات، فعبر عشرات آلاف السنين من عمر البشرية كان الحاكم الأكبر “الطوطم” حقيقة لا تقبل النقاش، وقدرًا محتمًا، فقط قبل قرنين بدأت قدسية الحاكم الأوحد تتزعزع، وبدأت عامة الناس تفكر في حقها في السلطة في بعض البلدان، ومنذ نصف قرن فقط، أصبح حق الإنسان – المواطن بالمشاركة “حقيقة” بشرية، جامعة لـ “كل” المجتمعات البشرية؛ حتى الأخلاق الإنسانية والقيم العليا سارت في طريق التطور والتغيير، فظهور شرعة حقوق الإنسان الدولية، كان المنتج الأهم للبشرية أخلاقيا، فأي تمييز ضد الإنسان، بسبب جنسه أو عمره أو لونه أو عرقه أو دينه أو مستواه المادي صار عيبًا أخلاقيا، قبل أن يكون انتهاكًا للقانون، وتم إجبار كل أشكال الدول المعاصرة، حتى لو نظريًا، بحسبان أن واجب الدولة الأهم هو تحقيق حق المواطنة الكاملة للإنسان، بما تشمله من حرية وكرامة وعدالة للإنسان.

كل هذه التغييرات عبر التاريخ كانت مدفوعة بتغيير البنى والعلاقات والأشكال الاقتصادية(2)، التي أنتجت تطورات هائلة في شبكة التواصل بين البشر، فكانت النتيجة، التي لا ندعي أنها الشكل الأمثل، هي النظام العالمي الجديد للسوق الدولية، حيث أصبح العالم -فعلًا- قرية صغيرة، تبحر عبرها الأموال والمنتجات والأفكار والمشاعر والفنون؛ وحتى القيم الأخلاقية، وتتفاعل صدامًا أو تكاملًا؛ ولعل هذا التواصل العالمي الذي أنشأته ثورة الاتصالات والتقنيات هو من أكبر التغيرات التي أثرت في الإنسان الفرد والمجتمع عبر التاريخ البشري؛ هذا التسارع في تغيّر المجتمعات والدول البشرية غاب عن معظم المنتج الفكر العربي، فبقي حبيسًا لتنظيرات النصف الأول من القرن العشرين، إن كان حداثيًا، وحبيسًا لـ “أساطير” إسلامية وقومية عربية ممتدة عبر عشرة قرون، إن كان أصوليًا؛ فالتاريخ هو عجلة تدور، لكنها تدور لتسير إلى الأمام، ولا تدور كي تعيد التاريخ، فمن المستحيل أن يعيد التاريخ نفسه، ولا حتى أن يعيد يومًا مضى.

أثبت التاريخ الحديث والواقع الدولي أن الشكل الوحيد الممكن للدولة المستقرة في القرن الواحد والعشرين، هو الشكل الديمقراطي العلماني، وذلك، وبكل بساطة؛ لأن الشكل الأحدث للدولة -كمنتج بشري- هو الشكل الديمقراطي والعلماني الذي يضمن قيم حقوق الإنسان بحسب الشرعة الدولية، ويسعى لتحقيق أفضل أشكال العدالة بين المواطنين، ويضمن بقاء الدولة، وفق مؤسسات مستقلة عن الأشخاص، ويحيّد أي فكر أو أيديولوجيا تعتمد التمييز بين البشر؛ هذه الشكل ليس هو الشكل النهائي الذي ستحققه البشرية في تطورها، لأنه شكل ما زال يعاني من مشكلات عديدة، لكنه بالتأكيد هو الشكل الأمثل، مقارنة بالتاريخ والواقع للبناء عليه نحو مستقبل أفضل؛ فلا يمكن موضوعيًا استحضار أي شكل قديم للدولة، مهما أثبت بزمانه ومكانه أنه أنموذج ناجح. لكن على ما يبدو، أنه في منطقتنا لا تشكل هذه الحقيقة النسبية قناعة عند كثر، وما زالوا يطلقون حول هذه الحقيقة جدالات بيزنطية لا نهائية، جدالات لها -للأسف- صدى واسعًا لدى الشارع المنهك فقرًا وظلمًا وحروبًا، لذا؛ لا بد لنا من إعادة هذا الجدل إلى نقاش مفيد منتج، وعدم الاستسلام لجدال عقيم؛ سنبدأ بهذا المقال مناقشة هذا الشكل، خدمة لخلق وعيّ سوريّ شعبي بضرورة تبني أنموذج الدولة الحديثة، سعيًا لإنقاذ مستقبل سورية من الصراع الدولي المتوحش فيها وعليها.

من الناحية الإحصائية، نجد أن الدول القوية الغنية والمستقرة كافة، كدول الغرب والصين واليابان والهند والبرازيل وتركيا ودول نمور آسيا وروسيا، هي دول تشترك في عنوان الديمقراطية والعلمانية، في جوهر نظامها، حتى لو كانت الخلافات البنيوية والمنهجية مختلفة، كأن “يدعي” أحدهم أن لا ديمقراطية في الصين لو قارنها باليابان أو فرنسا، أو أن تركيا يحكمها حزب إسلامي، أو أن روسيا تعاني من مشكلات جوهرية في الاقتصاد والفساد الإداري، لكن تبقى الحقيقة الموضوعية، مهما كان موقفنا الأخلاقي من سياسة هذه الدولة أو تلك، أن هذه الدول هي نسبيًا الدول الأقوى والأكثر استقرارًا و”الأكثر عدالة اجتماعية”، وأنها جميعًا تتبنى الديمقراطية والعلمانية كنظام للدولة، حتى لو شابتهُ اختلافات كثيرة، وفساد، في التطبيق؛ ولا يهمنا هنا الدخول في نقاشات فكرية لانهائية حول هل الصين أو روسيا ديمقراطية، أو هل تركيا وماليزيا علمانيتان، فالكلام والمقارنة نسبية، ولا تدعي أن أي دولة تحقق الشكل الأمثل، فالصين وروسيا -مثلًا- تدعيان وتسيران نحو الديمقراطية، قياسًا على تاريخهما وعلى الواقع الدولي، وتركيا وماليزيا ما زالتا دولتين رأسماليتين ليبراليتين علمانيتين، بالقياس النسبي والقانوني؛ حتى الدول الغربية لم تحقق الشكل الأمثل للدولة بمفهومها الديمقراطي والعلماني، لكنها تبقى الأفضل، بالمقارنة النسبية زمانيًا ومكانيًا، فعلوم السياسة والمجتمعات والاقتصاد لا يمكنها ادعاء وجود حقائق مطلقة، لكنها ترتكز إلى حقائق نسبية قابلة للتغير، بحسب الزمان والمكان.

من ناحية ثانية، وهي الأهم، كل الدول المهددة مستقبلًا بالانهيار، هي دول محكومة بديكتاتوريات مطلقة، دون أي نفس ديمقراطي، ومغرقة في الانتماءات الدينية أو العرقية أو القبلية أو العائلية، مثل كل الدول العربية وإيران ودول وسط آسيا والعديد من الدول الإفريقية، وهذه الدول ليست مهددة بالانهيار؛ لأنها “فقيرة” اقتصاديا فحسب، فالعديد منها مثل دول الخليج العربي وإيران من أغنى دول العالم، بل لأنها تفتقر إلى بنية الدولة العصرية المؤسساتية، وبدون أي توجه واضح نحو الديمقراطية والعلمانية.

إذن، واقعيًا، وخلال الزمن الحاضر والتاريخ القريب، لا وجود لأنموذج دولة، أثبت نجاحه وقدرته سوى أنموذج الدولة الديمقراطية العلمانية، لكن ذلك ليس نهاية النقاش، بل له تتمة.

(1) مقال منشور على (شبكة جيرون) بعنوان “شكل سورية المقبل هو بداية الحل”

ليس هدف المقال نقاش هل البنية الاقتصادية سبب أم نتيجة، لكن حتى بفرض صحة التفسير المثالي للتاريخ، فالنتيجة ضمن سياق المقال لن تتغير.




المصدر