تشوهات أصابت هوية سورية المحلية والإقليمية.. د.زين العابدين: سقوط الأسد لا يحقق جميع أهداف الثورة


رغداء زيدان ـ خاص السورية نت

في ظل الأوضاع المفصلية الراهنة التي تعيشها سورية خاصة والمنطقة بشكل عام، غابت عند كثيرين الرؤية السياسية المساعدة على فهم ما يجري وأبعاده ومآلاته المستقبلية، وتكاثرت الأسئلة الحائرة الباحثة عن إجابات مركزة تضع الأمور في سياق فكري يساعد على الاستيعاب ويؤسس للانطلاق نحو عمل مثمر مدروس، يحقق أهداف الثورة، التي انطلقت في سورية مطالبة بالعدل والحرية والكرامة. 

والدكتور بشير زين العابدين الباحث الأكاديمي المتخصص في التاريخ السياسي للعالم العربي، كتب العديد من الكتب والأبحاث والمقالات في شؤون الثورة السورية وتاريخ بلاد الشام ومصر والخليج العربي؛ ونشرت له مؤلفات وأبحاث وأوراق علمية في الشأن السوري أبرزها: "الفساد في سورية حقائق وأرقام" و"الجيش والسياسة في سورية 1918 ـ 2000" ، و"مرتكزات نظام الحكم السوري (1970-2011) وأثرها في بناء الثورة"، وغيرها من المقالات المنشورة في مجلات ومواقع إلكترونية عدة.

وبحكم عمله الأكاديمي والبحثي والسياسي الغني والمميز توجهت "السورية نت" بمجموعة من الأسئلة طرحتها على الدكتور بشير زين العابدين، وتفضل مشكوراً بالإجابة عنها، كما يلي:

1 ـ المتتبع للتاريخ يجد أن البلاد العربية ومنها سورية ومنذ قيام الثورة العربية الكبرى عام 1918، لم تنعم بالاستقرار السياسي حتى اليوم، ما أسباب ذلك برأيك؟

دعينا نميز هنا بين الملكيات والجمهوريات، فالملكيات العربية يعود تاريخ تأسيس معظمها إلى القرن الثامن عشر الميلادي، أما بالنسبة للجمهوريات الوليدة فقد ظهرت في النصف الأول من القرن العشرين وكانت المشكلة الجغرافية من أوائل المعضلات التي واجهتها عقب انعتاقها من الحكم العثماني، حيث تم ترسيم الحدود وفق ما تقتضيه مصالح القوى الاستعمارية وليس وفق تقسيمات الجغرافيا الطبيعية، ففي سنة 1916 تم توقيع اتفاقية "سايكس-بيكو" والتي نصت على اقتسام سورية والعراق من قبل بريطانيا وفرنسا، وفي سنة 1917 صدر وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي سنة 1920 تم توقيع معاهدة "سيفر" التي اتفقت فيها بريطانيا وفرنسا على تقسيم الشام والعراق إلى مناطق نفوذ، وفي العام نفسه (1920) أبرم الحلفاء معاهدة "سان ريمون" التي نصت على وضع سورية والعراق تحت الانتداب، وفي سنة 1922 قامت بريطانيا بالاتفاق مع فرنسا على ترسيم الحدود بين سورية وفلسطين بهدف توفير كامل المياه للكيان اليهودي المرتقب، وفي شهر يونيو 1939، قامت فرنسا بسلخ لواء الاسكندرونة عن سوريا في اتفاقية فرنسية-تركية كان الهدف منها كسب الأتراك لصالح الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

ونتيجة لهذه المظالم التي استحدثتها قوى الانتداب فقد عانت الجمهوريات العربية جميعها من تشوهات بنيوية، إذ لم يبق للجمهورية السورية من ساحل الشام الممتد أكثر من 800 كم بين كلكيلية وسيناء سوى 183 كم، وظهر تناقض كبير بين مفهوم سوريا الكبرى (أو ما اصطلح على تسميته ببلاد الشام) وسوريا الجمهورية، وكان لهذا التباين تأثير سلبي على الهوية المحلية والإقليمية للقطر السوري، وعلى علاقة الكيان الجمهوري الجديد مع الدول المجاورة له، وكذلك هو الحال بالنسبة للعراق ككيان قائم منذ آلاف السنين على حضارة مائية، في حين لم تُبق له اتفاقيات الانتداب سوى منفذ ضيق لا يتناسب مع حجم البلاد ومصالحها، مما خلق مشكلات مزمنة بين سوريا ولبنان من جهة، والعراق والكويت من جهة أخرى، ويمكن سرد أمثلة شبيهة لمشاكل الحدود بين مختلف البلدان العربية والتي لا تزال تمثل أحد أبرز المهددات الأمنية في المنطقة.

وتكمن الإشكالية الأكبر لهذه التشوهات الجغرافية في تشكيل الهوية الوطنية لهذه الدول، حيث وقع انفصام مبكر بين الهوية الطبيعية والهوية المصطعنة (أو ما يمكن أن نسميه بالدولة القومية والدولة الوظيفية)، حيث رفضت جميع الأحزاب العربية الحديثة الاعتراف بترتيبات قوى الانتداب، وتبنت إيديولوجيات وحدوية ذات طابع إقليمي أو أممي، واعتبرت الكيانات الوليدة مرحلة مؤقتة، مما رهن بقاء الجمهوريات واستمرارها بحكم العسكر الذين تنامت لديهم شهوة السلطة واستحوذوا على مؤسسات الحكم من خلال سلسلة انقلابات عسكرية نتج عنها: تعطيل الحياة السياسية، والتعدي الحريات العامة، وقيام علاقة متوترة بين الشعب والسلطة.

2 ـ كيف انعكست الأزمات الداخلية في البلاد العربية ومنها سوريا على الأمن الدولي؟

تمثل مسألة الارتباط بين الأحداث الداخلية في الجمهوريات المتداعية وبين الأمن الإقليمي والأمن الدولي إحدى أبرز معالم المدرسة الواقعية الجديدة، إذ إن الجمهوريات الحديثة قد عانت من نقص تجربتها في تشييد أركان الدولة القومية، وأدى قصر تجربة بناء الدولة وفشل أنظمة الحكم إلى ارتكاز الدول الحديثة على قواعد ضيقة من الفئات الحاكمة التي تستند إلى القوة العسكرية وليس إلى التأييد الشعبي، ونتيجة لذلك فإن مهددات الأمن لهذه الدول غالباً ما تأتي من الداخل بسبب ضعف بنيتها وعدم قدرتها على تشكيل علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع، ثم تأتي عوامل: الضعف الاقتصادي، وسوء توزيع الثروة، والتوتر بين مختلف المجموعات الإثنية والمذهبية داخل المجتمع كأمراض فتاكة تنخر في جسد هذه الدول، وتمنعها من تشكيل نظام أمني متوازن، وتؤثر بدورها على منظومات الأمن الإقليمي والأمن الدولي، ويتمثل ذلك صورة جلية في تنامي دور القوى الفاعلة خارج إطار الدولة كالميلشيات المسلحة والجماعات الطائفية والتي تعمل على تدمير كيان الدولة من جهة وعلى تأجيج النزاعات الإقليمية من جهة أخرى مما يعرض منظومات الأمن العالمية للخطر.

وبناء على ذلك فإن اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، والحرب الحدودية بين العراق وإيران، وظهور الميلشيات الطائفية وجماعات الغلو العابرة للحدود كانت لها نتائج وخيمة، ليس على الأمن الإقليمي فحسب، بل على الأمن الدولي بصفة عامة، وعلى الصعيد نفسه فإن أحداث 11 سبتمبر 2001 قد دفعت المجتمع الدولي للاعتراف بوجود مهددات أمنية جديدة تنبع من جماعات لا تتبع بالضرورة إلى دولة بعينها.

يدفعنا ذلك للتأكيد على أن حالات التدخل الخارجي في دول المنطقة العربي هي في حقيقتها عوامل: "مؤثرة" وليست عوامل "مسببة" للصراع الإقليمي، حيث إن الدول الكبرى لا تستطيع أن تفتعل أسباب النزاع الإقليمي، ولكنها سرعان ما تبادر إلى الاستفادة من هذه النزاعات بهدف تعزيز مصالحها، وغالباً ما تندلع الصراعات المحلية والإقليمية نتيجة مسببات داخلية تتمثل في: الصراعات المجتمعية، والاحتقان الطائفي، والنزعات الانفصالية، والخلافات الحدودية بين الدول.

وعلى الرغم من التدخل الخارجي في ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن؛ إلا أن استعار خلاف المجتمع الدولي حول الحالة السورية واصطفافه في معسكرين متنافسين؛ قد أثبت ضرورة تقصي تأثير التطورات المحلية على الأمن الإقليمي والأمن الدولي، إذ إن الأهمية الاستراتيجية لسورية تمتد إلى أقاصي الحدود السياسية للعالم العربي، وتقع على خط المحور الرئيسي لاستراتيجيات القوى الكبرى.

3 ـ في دراسة لحضرتك بعنوان "تطور فكرة تقسيم المشرق العربي في مراكز الفكر الغربية (2001-2013)" نُشرت قبل ثلاث سنوات تقريباً تحدثت عن مفهوم "التجزئة ضمن الحدود" واليوم نجد أن الحديث عن التقسيم في سورية يتكرر كثيراً، ما الفرق بين المفهومين؟

في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق ظهرت في مراكز الفكر الغربية دراسات تسوق لمشاريع الحكم الفيدرالي ودعم النزعات الانفصالية في الشرق الأوسط، وذلك بالتزامن مع تركز الاستراتيجية الغربية في التعامل مع المنطقة العربية من منظور "تمكين الأقليات"، حيث تقدمت العديد من هذه المراكز بمجموعة دراسات وخرائط منها مراكز: "راند"، و"غلوبال ريسيرتش"، و"ستراتفور"، و"هدسون" للدراسات الاستراتيجية.

وفي شهر يوليو 2006 نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية دراسة للنائب الأسبق لرئيس هيئة الأركان الأمريكي رالف بيترز دعا فيه إلى إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، وعلى الرغم من أن هذه الخطة لم تعتمد من قبل الإدارة الأمريكية إلا أنها عرضت للنقاش في كلية حلف شمال الأطلسي، وتم تداولها في دوائر رسمية عدة بالولايات المتحدة الأمريكية، تبع ذلك دعوات للدول الغربية بدعم مطالب المجموعات الراديكالية بالانفصال السياسي والحكم الذاتي وظهور علاقة تنسيق وتعاون بين المؤسسات الرسمية الغربية وبعض الجماعات الطائفية التي أخذت تطالب بالانفصال، مما شجع بعض الباحثين الغربيين للتقدم بأطروحات أكثر جرأة فيما يتعلق بإعادة رسم خريطة المشرق العربي على أسس إثنية ومذهبية.

أما مفهوم "التجزئة ضمن الحدود" فقد ظهر بصورة جلية في مرحلة الثورات الشعبية (2011-2013)، حيث تبنت العديد من مراكز البحث الغربية أطروحات جديدة تتضمن الدعوة إلى تأسيس كيانات فيدرالية أو إلى إعادة فرز القوى المجتمعية وفق معادلة تفتيتية تقوم على المحاصصة السياسية للقوى المجتمعية داخل إطار الدولة، ومثلت الأزمة السورية نموذجاً لتطبيق مفهوم "التجزئة ضمن الحدود" وفق النسق العراقي، حيث نشرت دراسات وخرائط تقترح إعادة الفرز الجيو-سياسي ضمن إطار الحدود القائمة، ولعل أبرزها الخريطة التي نشرها "معهد دراسات الحرب" وتضمنت مقترحاً بتقسيم سوريا إلى ثلاثة أقسام: رقعة شمالية شرقية يسيطر عليها الأكراد، وأخرى وسط وشمال غربي البلاد تسيطر عليها المعارضة في حلب، ومنطقة تحت سيطرة النظام تضم دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.

ويقوم هذا المشروع على تحريض المجموعات الإثنية والطائفية للمطالبة بترتيبات مستقلة لهم في مناطق محددة، بالإضافة إلى حصة محددة في السلطة المركزية وفق مفهوم "الترويكا" المعمول به في لبنان، وتتولى مؤسسات أمريكية ضخمة مثل (USAID) و(NDI) و(NED) و(MEPI) تمويل هذه الجماعات وتدريبها وتمكينها من الإمساك بمفاصل الإدارة والحكم المحلي من جهة، ودعم مطالبها بتأسيس كيانات فيدرالية.

ومن ضمن البحوث التي نشرت في هذا المجال ما كتبه الباحث في جامعة هارفرد "روجر أوين" الذي تحدث عن ضرورة تطبيق مفهوم: "التجزئة ضمن الحدود" في سوريا كما هو الحال في العراق، وكذلك الكاتب في صحيفة "نيويورك بوست" أرنولد ألرت الذي رأى أن الصورة الأنسب لضمان استقرار الكيان الجمهوري في سوريا تكمن في تأسيس نظام "ترويكا" تتوزع السلطة فيه بين السنة والأكراد والعلويين، وتأتي مثل هذه الأطروحات نتيجة الاعتقاد أن فكرة إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة يمثل خطورة كبيرة على الأمن الدولي وربما تفضي إلى حرب عالمية ثالثة باهظة التكاليف، وهو أمر لا تحتمله الدول الغربية في ظل الظروف الحالية، مما يدفع الباحثين والسياسيين الغربيين للاستعاضة عن ذلك بمفاهيم التجزئة ضمن الحدود.

4 ـ هل مصير سورية برأيك سيكون التقسيم أم أن المصالح الغربية يوافقها التجزئة ضمن الحدود كما في العراق؟

في ظل انهيار الدبلوماسية الأمريكية بات من الواضح أن بعض القوى الإقليمية والدولية تعمل على بسط سيطرتها على مناطق من البلاد ووضعها تحت إدارتها، لعدة أسباب، أبرزها: حماية حدودها، ومنع امتداد الأزمة إليها، ووقف تسلل المقاتلين الأجانب عبر الحدود، فضلاً عن محاولة السيطرة على حركة الهجرة واللجوء والتي باتت تؤرق الدول الأوروبية ودول الجوار على حد سواء.

لا أعتقد أن هذه المشاريع ستقوم على أسس إثنية أو طائفية، وإنما سيكون الغرض الأساسي منها هو إقامة مناطق حظر طيران، وإبرام صفقات جزئية على النمط الذي كان يسعى إليه كيري مع لافروف في حلب.

ومع ذلك فلا بد من لفت الانتباه إلى جيبين يتم التأسيس لهما، الأول شمال شرقي البلاد حيث تتخذ الولايات المتحدة من قاعدة "رميلان" بمحافظة الحسكة مركزاً لبسط السيطرة على نحو 2000 بئر نفط، والمضي قدماً في مشروع تمكين الأكراد وإنشاء كيان فيدرالي لهم شرقي الفرات، وتعزيز ذلك بوجود عسكري مباشر وتقديم الأسلحة النوعية والتدريب لوحدات حماية الشعب الكردية فيما يعزز مطالبهم بإنشاء جيب على أسس إثنية، وكذلك ما يحصل في قاعدة "احميميم" الجوية التي تتخذها روسيا مقراً لعملياتها الجوية، واجتماعاتها السياسية، ودبلوماسيتها المكثفة، واعتبارها نقطة ربط واتصال إقليمي، بالإضافة إلى ادعائها حماية العلويين وتوفير جيب آمن لهم، في حين يعمل النظام على تنفيذ عمليات تهجير قسري في محافظة اللاذقية على أسس طائفية لتحقيق ذلك الهدف.

لكن هذه الترتيبات لا يمكن لها أن تستمر، ومشاريع التقسيم أو التجزئة أو محاولة إنشاء فيدراليات إثنية وطائفية لن يكتب لها النجاح، وهو درس كان من المفترض أن تتعلمه القوى الدولية من التجربة الفرنسية الفاشلة لإنشاء كانتونات طائفية في سوريا خلال الفترة 1920-1936، فالتركيبة الديمغرافية في سوريا تختلف كثيراً عن الوضع في العراق أو في لبنان، ومن غير الممكن حصر أغلبية سكانية ساحقة في مناطق وسطى وفق صفقات تتم في موسكو أو جنيف.

5 ـ نظام الأسد المستمر في سوريا رغم عدم سيطرته إلا على أقل من 20 بالمئة من سورية، مازال الغرب بشكل أو بآخر متمسكاً به بحجة عدم وجود البديل، وهنا يتبادر للذهن سؤال لماذا لم تستطع المعارضة مع مرور هذه السنوات تقديم بديل لنظام الأسد؟

الإجابة على هذا السؤال من وجهين:

أولاً: ترى كثير من الدول المعنية بالشأن السوري أن في  التمسك ببشار الأسد مصالح استراتيجية متعددة؛ فبقاء النظام يمثل حلقة أساسية من مشروع التوسع الإيراني الممتد من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق، كما أنه محور مشروع استعادة دائرة النفوذ الروسي والتي تتمحور حول إنشاء شبكة من القواعد الجوية والبحرية شرقي المتوسط، وفي الوجهة المقابلة يمثل بقاء بشار الأسد صمام أمان لبعض الدول العربية التي تخشى من صعود الإسلاميين للسلطة، في حين ترى بعض الدول الغربية أن بشار يمكن أن يكون حليفاً قوياً في محاربة الإرهاب والقضاء على تنظيم "داعش"، ولا تجد بديلاً ناضجاً يمكن الاعتماد عليه.

أما الولايات المتحدة فإنها غير واثقة بقدرتها على التعامل مع حالة الفوضى التي يمكن أن تطرأ إذا سقط النظام بصورة مفاجئة، فالأوضاع الأمنية في العراق لا تزال خارج السيطرة منذ 13 عاماً، والمنطقة لا تحتمل حالة من الفوضى طويلة الأمد على النمط العراقي، خاصة وأن احتمالات امتداد الأزمة السورية لدول الجوار عالية جداً.

ثانياً: هنالك حالة من عدم الثقة بالمعارضة نتيجة ضعف أدائها السياسي، وعجزها عن تقديم بديل ناضج يمكن الارتكاز عليه في الإدارة والحكم، وذلك نتيجة ضعف الممارسة وسقوط الكثير من مكوناتها في مزالق الاستقطاب الإقليمي وفي شرك الصراعات الإقليمية، في حين أصبحت الكيانات التمثيلية للثورة تقوم على أسس المحاصصة وتقاسم النفوذ بدلاً من أن تقوم على أساس الكفاءة والاحتراف.

وفي المقابل تنخر في جسد العديد من الفصائل الفاعلة مظاهر: الأدلجة والأفغنة والاقتتال الداخلي، والصراعات البينية بين الأجنحة الشرعية والسياسية داخل هذه الفصائل، فضلاً عن تصادمها مع المكونات المدنية والشعبية في العديد من المناطق المحررة.

المشكلة في المعارضة أنها لا تزال عاجزة عن تقديم نموذج ناضج يمكن الارتكاز عليه، فهناك مخاوف وتعقيدات أمنية إقليمية ودولية، وفي وقفة مراجعة للحراك الثوري السوري يمكن القول إن التطور البنيوي قد انحرف في مساره خلال الفترة الماضية، ويظهر ذلك جلياً من خلال تقوقع بعض القوى الفاعلة في قوالب صلبة لا تتمتع بالمرونة التي تسمح لها بالتأقلم مع الأحداث والمستجدات؛ وتقمص البعض منها نمطاً من التشكل البنيوي المنفصم عن الحراك الشعبي وعن المجتمع، وتبني مواقف متشددة تنطلق من ادعاء الوصاية على الثورة تحت شعارات: "تحقيق المصلحة العامة" و"صيانة الهوية"، و"محاربة العدو"، و"صد المؤامرات"، و"ترسيخ الاستقلال"، و"تحقيق الإصلاح"، لكنها لا تملك على أرض الواقع برنامجاً سياسياً قابلاً للتحقيق، ومن أبرز مساوئ هذه الظاهرة؛ تعزيز حالة الريبة تجاه الخارج، وتنمية مشاعر العداء تجاه أي فكر معارض، مما يجعل الحركة أسيرة هواجس أمنية، ويدفعها لرفض أية مبادرات لا تنبثق من منطلقاتها الفكرية.

6 ـ ما عوامل قوة الثورة السورية وفق تقديرك؟

"القوة"، مفهوم واسع، وهنالك نظريات متعددة في تفسير ظاهرة القوة وممارساتها، وهنالك حاجة ملحة لاستيعاب ديناميكيات القوة وتفاعلاتها.

وبعيداً عن الجانب النظري للمسألة، فإن واقع الصراع يفرض علينا الأخذ بمصادر القوة المتمثلة في: قوة الخطاب الإعلامي عبر امتلاك الأدوات التي تساعد على توصيل الأفكار ونقلها بصورة أمينة وصادقة للرأي العام، والقوة الاقتصادية المتمثلة في الانتقال من مرحلة الإغاثة والعمل الخيري إلى التنمية الشاملة بمختلف مفاهيمها، ومن ذلك تنظيم وإدارة قطاعات الإنتاج المحلي وتأطير المساعدات الخارجية غير المشروطة.

كما تمثل القوة الشعبية رافداً مهماً باعتبارها حاضنة الكيانات التي تسعى لتحقيق شرعية بديلة عن النظام الذي ثارت عليه، مما يحتم عليها صياغة استراتيجية للتعامل مع مختلف القوى الشعبية الفاعلة ومنظمات المجتمع المدني والتكامل معها بدلاً من مصادمتها أو قمعها، وكذلك القوة السياسية عبر صياغة تحالفات استراتيجية وتحالفات مرحلية، إذ لا يمكن لقوى المعارضة أن تنفذ أجنداتها في معزل عن المحيط الإقليمي والدولي، ودون التعاون مع مختلف القوى السياسية الفاعلة، ومع مؤسسات المجتمع المدني، ومع الفعاليات والقوى المجتمعية.

ومن صيغ القوة كذلك: القوة البنيوية، والتي تتجلى في الكيانات الممثلة لمعارضة، حيث تفرض طبيعة الصراع أن تتحرك قوى الثورة في إطار مؤسسي ناضح يحوز على الشرعية الدولية، ويمارس عمله وفق تخويل معتبر، وأن تعمل هذه المؤسسات على تطوير البناء التنظيمي والإداري فيما يعزز من كفاءتها ويمنحها الاعتراف والقبول الشعبي.

وفي ظل غياب دور النخب، تتجلى الحاجة للحديث عن القوة الفكرية وقدرة الكيانات الثورية على مراجعة منطلقاتها الفكرية وتحديثها وفق المستجدات، خاصة فيما يتعلق بتشكيل كيان الدولة وأدوات الإدارة والحكم، ويقتضي ذلك توفير القوة البشرية كمصدر أساسي من مصادر القوة وذلك من خلال تعزيز الكفاءات في مجالات: العمل السياسي، والاستراتيجيات الدولية، ونظم الإدارة والحكم، وأن يتم رفدهم بمصادر القوة المعلوماتية لفهم طبيعة الصراع وتقييم المرحلة والتعامل مع المستجدات بمهنية واحتراف، مما يتطلب تأسيس مراكز إمداد بحثية ومعلوماتية، وأجهزة الرصد والبحث العلمي.

لا بد من التأكيد أن الصراعات لا تحسم اليوم بقوة السلاح فحسب، إذ إن الاقتصار على ممارسة القوة بمفهوم "العنف" قد أفضى إلى ضياع الكثير من المنجزات الميدانية نتيجة عجز القوى الفاعلة عن حماية منجزاتها بسبب قراراتها الخاطئة أو قلة معلوماتها أو فقدانها للحاضنة الشعبية أو فشلها في صياغة خطاب إعلامي رصين، أو رهن قرارها السيادي بمصادر التمويل نتيجة الاعتماد على القوة الرديفة بدلاً من الاعتماد على القوة الكامنة.

7 ـ متى يمكن أن نقول إن الثورة السورية نجحت؟ وهل هذا ممكن رغم كل التحديات الموجودة اليوم؟

هنالك نظريات متعددة في تفسير الثورات وتحديد معايير نجاحها، ويمكن الإحالة إلى العديد من الدراسات التي نشرت في السنوات الماضية، أبرزها كتاب ثيدا سكوكبول في النظرية الهيكلية لتفسير الثورات، وتيد غور في كتابه "لماذا تثور الأمم"، والذي يرى فيه أن جميع الثورات تمر بثلاثة مراحل:

1- مرحلة السخط الشعبي العارم غير المنسق، والذي ينتج عن تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية وعجز نظام الحكم عن إدارتها.

2- سعي القوى الشعبية للانخراط في حراك ثوري منظم، يحول حالة السخط المندفع بمختلف الاتجاهات إلى منظومة منضبطة لتحقيق الصالح العام.

3- تطور البناء السياسي والعسكري للثورة إلى مستوى الندية مع النظام، ثم التفوق عليه تدريجياً لهدم أركانه وتفكيك مؤسساته، وتكوين بديل مؤسسي قادر على ممارسة الإدارة والحكم.

ومن خلال هذه المعطيات يمكن القول إن النصر الفعلي للثورة لا يقتصر على إسقاط النظام؛ بل يتمثل في قدرة القوى الثورية على تشكيل منظومة سياسية رشيدة توفر بديلاً مؤسسياً قادراً على الأخذ بزمام المبادرة الداخلية والتعامل مع القوى الإقليمية والدولية بحنكة واحتراف. 

المشكلة هي أن بعض أدبيات الثورة قد ركزت بصورة كبيرة على إسقاط بشار الأسد كمآل نهائي للثورة، وعلى الرغم من أن سقوط بشار الأسد وزمرته هو ضرورة حتمية للانتقال السياسي دون شك؛ إلا أنه لا يعكس بالضرورة تحقيق جميع أهداف الثورة، وهو درس قاسٍ يفترض أن نكون قد تعلمناه من تجارب مصر وليبيا واليمن.

تنجح الثورة عندما تتمكن من إشادة كيان سياسي بديل، يتمتع بالثقة الشعبية والقدرة على حفظ الأمن وتوفير البدائل الناضجة في منظومات الإدارة والحكم.

أما على الصعيد الخارجي فإن نجاح الثورة يكمن في توفير كوادر على مستوى من الكفاءة للتعامل مع المعادلة الإقليمية والدولية المعقدة لسوريا، والقدرة على اللعب مع الكبار في منظومات أمنية دقيقة ورؤية رصينة.




المصدر