في مواجهة ثورة الشباب العربي


بدر الدين عرودكي

حين غادر بن علي تونس، وأعلن حسني مبارك تنازله عن منصبه رئيسًا للجمهورية، واعتقل الثوار الليبيون القذافي الذي اختبأ في مجاري مياهها وانتهى مقتولًا، لم يلتفت كثير منا آنئذ إلى تفصيل “بسيط”: هل كانت الأنظمة التي خرجت الجماهير تطالب بسقوطها هي التي كانت تنهار أم أن ما كان يجري لم يكن يتجاوز مجرد إزاحة رموزها التي عفا عليها الزمن؟ وهذا الربيع العربي الذي جاء بعد طول انتظار، هل جاء في موعده أم أن الفصول تشابهت عليه، فكان ربيعًا خريفيًا بامتياز؟

هرع يومئذ كبار مسؤولي البلدان الغربية إلى ميدان التحرير بالقاهرة كي يروا بأنفسهم ما يجري. كما لو أن ثورة الشباب في أكبر بلد عربي كانت تشرعن في أعينهم وتمنح المعنى الأعمق لما حدث في تونس وليبيا ثم في مصر واليمن قبل أن ينتقل إلى سورية. عقدت ندوات لا حصر لها في العواصم الغربية كان يشهدها ويشارك فيها أيضًا كبار مسؤولي الخارجية والأمن في بلدانها. وكانوا جميعًا لا يتوانون في التعبير عن ذهولهم وإعجابهم ويطرحون أسئلة كانت تبدأ دوما بـ: كيف، مَن، وإلى أين؟

لكن كثير منا، مَنْ كان داخل بلدان الثورات العربية أو خارجها، ولا سيما من تصدوا بسرعة لقيادة الجماهير أو النطق باسمها أو زعْم تمثيلها، لم يقرأ -ـكما كانت تتطلب القراءة- ما يجري على الساحة العربية من المشرق إلى المغرب. ظن الجميع أن رحيل رموز النظام واعتقال ممثليه سيضع نهاية للنظم التي يمثلونها. وحدهم من كانوا يقفون بالمرصاد لهذه الحركات غير المسبوقة في العالم العربي، كانوا يدركون المهمة التي تنتظرهم، ويضعون الخطط؛ لتنفيذها بهدوء وتصميم. وحدهم الذين كانوا عماد هذه الأنظمة منذ أكثر من ستين عامًا، مَنْ كانوا يراقبون ما يجري عن كثب. لم يكن نساء ورجال المعارضة التقليدية من يقلقهم، ولا الذين سرعان ما امتطوا موجة الثورة، فساروا في مقدمة صفوفها وكأنهم من بدأها، بل الذين قاموا بالثورة فعلًا وملأوا الشوارع والساحات: الشباب العربي الذي كان يُظنُّ أنه غارق في سبات اللامبالاة، فبدأوا بهم، سجنًا هنا ومطاردة حتى النفي هناك، أو سجنًا ينتهي بالقتل إن لم يبدأ به ولا سيما في سورية.

شكك في البداية كثير ممن تصدوا -بعد ذلك- لقيادة هذه الثورات في دوافعها. وتحدث بعضهم، ممن يعدّون أن كل ما يجري في العالم العربي نتيجة مؤامرات خارجية، عن دورات تدريبية أو تعليمية نظمت في عدد من البلدان الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية لعدد من شباب تونس ومصر واليمن في مجال الشبكات العنكبوتية والاجتماعية التي استُخدمت بغزارة في إعداد وقيام هذه الثورات. واتُّهِمَ بعض الشباب الفاعلين والفعّالين فيها “بتعاونهم مع الصهيونية والدوائر الاستعمارية”.

سوى أن ردود أفعال ما سمي بـ “الدولة العميقة” في البلدان المذكورة جاءت تشير بالأحرى لا إلى جدّية محاولات الالتفاف على هذه الثورات شبه المتزامنة وتفريغها من محتواها أو القضاء عليها فحسب، بل إلى براءة هذه الثورات من محاولات التشويه أو التشكيك في نبل دوافعها وأهدافها معًا.  ذلك أن محاولة الالتفاف الأولى على ثورة الشباب العربي التي انطلقت في تونس، أي على طرف الجناح الغربي للعالم العربي، قبل ست سنوات تقريبًا، كانت قد بدأت بوضوح ومنذ البداية على طرفه الشرقي، أي في سورية، حين قرر النظام الأسدي مواجهة هذه الثورة بقوة السلاح غير المحدودة أو بما سمي بالحل الأمني بهدف القضاء عليها بدءًا بإنكارها ثم بتوصيفها مؤامرة كونية ضد نظام “المقاومة والممانعة” الوحيد في العالم العربي. وعلى أن محاولات أخرى تلتها في اليمن وفي ليبيا وفي مصر على اختلافها في المنهج وفي التطبيق، إلا أن المحاولة الأولى التي نجحت في ما سعت إليه باتت مضربَ مثلٍ استخدم أثناء محاولات الالتفاف في البلدان العربية الأخرى حين صارت تلوِّح بما حدث في سورية كبديل عما تحاول فرضه نكوصًا عن الثورة وتكريسًا للنظام القديم بوجوهٍ جديدة. كما لو أنها كانت تعيد صياغة الشعار الأسدي: “الأسد أو نحرق البلد” من خلال عبارة أخرى: إما نحن أو الدمار أو القتل أو النزوح أو كل ذلك معًا.

كانت الشعارات التي رفعها الشباب في بلدان الثورات العربية متشابهة بل ومتطابقة: إسقاط النظام، والحرية، والكرامة. وكانوا في مصر -مثلًا- وهم يواجهون قمع السلطة، يستفيدون من تجارب إخوة لهم في تونس في مقاومته أو في جعله مستحيل التطبيق، مثلما حاول إخوة لهم في مدن سورية السير على نهجهم.  فجأة بدا العالم العربي أمام الخارج واحدًا في مشكلاته وأزماته وكوارثه واستبداد زعمائه وفسادهم. وكانت القوى الغربية التي دعمت هؤلاء الزعماء وأنظمتهم تشهد إشارة التغيير المفاجئة والمُهدِّدة وتنتظر مآلها. لم تسئ قراءة ما كان يحدث. وكانت كما بدا فيما بعد على ثقة من أن النظام العميق لم يُصَبْ بأذى، وكانت على استعداد للتعاون معه في كل بلد ينجح فيه باستعادة زمام المبادرة من الشارع من أجل “إعادة الأمور إلى نصابها”.

لم تتمكن ثورة الشباب في سورية من أن تحقق الانتصار الرمزي الذي حققه إخوانهم في تونس وليبيا ومصر. وكان النظام الأسدي ورأسه بالمرصاد؛ كي يحولا دون مثل هذا الانتصار أيًا كان الثمن المطلوب لتحقيق ذلك، مستخدمًا خبرة نيف وأربعين عامًا في ممارسة السياسة الأمنية ذات الطابع المافيوي على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، بما في ذلك ضروب العمالة والمراوغة والكذب وتشويه الحقائق، وتسويق صورة يظهر بها النظام العربي الوحيد الحريص على مصالح الأمة والوطن في العالم العربي، والنظام العلماني حامي الأقليات في العالم الغربي. لم تكن “إعادة الأمور إلى نصابها” ــ أي إلى سابق عهدها بحلة جديدة ــ في سورية ممكنة على النحو الذي تمت فيه بمصر على سبيل المثال؛ إذ كان لابد لطبيعة النظام الأسدي الاستثنائية من أن تظهر على الملأ بكل عنفوانها وبشاعتها وخبثها، وتواطؤ ما يسمى بالمجتمع الدولي معها ورعايته لأفعالها، وكان لابد في الوقت نفسه من أن تنكشف ضروب القصور اللامتناهية لدى من تصدوا لقيادة المعارضة، على اختلاف ألوانها ونزعاتها في الداخل وفي الخارج،  في مواجهة نظام تدعمه الآلة الحربية والدبلوماسية لقوتين، الروسية والإيرانية، المتفقتيْن في الأهداف المرحلية على الأقل، واللتين انتهتا إلى انتهاك سيادة سورية واحتلالها أرضًا وقرارًا.

نجحت إلى حين إزاحة قادة المشهد الثوري في العالم العربي من الشباب سجنًا أو قتلًا أو نفيًا. هكذا بدا المشهد العام أقرب إلى مشهد دمار عام، على الصعيد السياسي والاقتصادي في بعض البلدان، وعلى الصعد كلها كما هو الأمر في سورية.

ذلك بعضٌ من مشاهد “الفوضى الخلاقة” التي تتجلى أمام الجميع. ومع ذلك، وعلى الرغم من كل ما جرى ويجري، لا يمكن القول إن الستار سيُسدل على الحركة التي بدأت في بدايات عام 2011. فهي لم تنته بعدُ، ولا تستطيع أي قوة أن تعلن اليوم انتهاءها. فالأبواب لا تزال مفتوحة كلها على كل ما أتاحت ظهوره من إمكانات، ولا يزال التربص قائمًا داخل المجتمعات العربية المنكوبة كلها. تربّصٌ تساعد على تغذيته مختلف التناقضات القائمة اليوم على صعيد القوى الدولية والإقليمية، سواء في المصالح الآنية أو في الاستراتيجيات بعيدة المدى لكلٍّ منها.




المصدر