on
كي نشفى من التعاسة
رغدة حسن
ثمّة استعدادات فطريّة تتعلّق بطبيعة الكاتب؛ حساسيّة مرهفة، ميل إلى الوحدة كفضاء للحريّة والتّأمّل والدّهشة، يؤازر هذه الاستعدادات، البيئة التي نشأ فيها، لدرجة الإحساس بالتماهي مع الوجود والمحيط الكلي.
الامتزاج بين الذات والطبيعة، وما ينتج عنه من إثراء لمخزون الحياة، فك وتركيب نصّ الحياة، وإعادة صوغه وقولبته وصهره في مجامر الروح؛ ليعيد صهرنا بدوره. يكتمل النص في عناق الحبر للبياض محلّقًا، ناشرًا أجنحة من نور؛ بحثًا عن قارئ مبدع، يكمل قوس النص؛ لتكتمل الدائرة ويكتمل الخلق، سابحًا في لجته العميقة، عميقًا –هناك- يستدل من أبجدية الكاتب كيف يصادق الريح ويستمع للصمت الذكي، يملأ فراغات فضاء البوح بإجهاشه حينًا؛ جموحًا وشبقًا عالي الموج للمعرفة حينًا، وإشعال فتيل التمرد على الألواح الصدئة والسقوف الواطئة أحيانًا كثيرة.
والعمل في الكتابة يقارب كثيرًا عمل الحدّاد؛ فالكاتب يحضّر مخزونه المعرفي؛ الحروف، المفردات (المطاوعة والصلبة)، الصور والفكرة، … ويبدأ بالطرْق المحموم؛ لينزع ما تأكسد وتكلّس.
يذهب بالفكرة إلى مسابكه السرية، يُعمل فيها أزاميله ومطارقه، ينفخ من نار روحه وذاكرته وموروثه المعرفي، يطوّعها ليشكلها، ثم يرميها في أتون أحلامه؛ هواجسه وهذيانه، … يتعرى أمامها ليعريّها، يغدق عليها من وهجه، ويصوغ منها أيقونته وسلامه وحصنه، ثم يجلس مبتسمًا لولادتها وولادته معها.
وكما قال يوسا: “إن الكتابة هي أفضل ما تم اختراعه للوقاية من التعاسة”
وإذا كنت ذهبت بتشبيهي إلى أن الكتابة تشبه مهنة الحدادة (من حيث وعورة العمل/ السبك/ الصياغة/ الاحتراق/ الخلق…)، فإن الكتابة الإبداعية تقترب كثيرًا في الشبه من مهنة الصائغ.
إن كل من مهنة الحدادة والصياغة يسلك الطرق نفسها، وتستخدم فيه الأدوات ذاتها؛ مع اختلاف في الدقة والوقت والنتاج. كلاهما متشابهان، لكن النتاج مختلف في القيمة؛ القيمة الناتجة من أصل الفكرة وطريقة خلقها…
في كتاب “المعانقات” لإيدواردو غاليانو، أقف دائما عند قصته (احتفاء بالفنتازيا):
“حين جاء طفل نحيل من الجوار يرتدي الأسمال، وطلب مني أن أمنحه قلمي، لم أستطع أن أفعل ذلك؛ لأنني كنت أستخدمه في تدوين ملاحظاتي المضجرة، لكنني عرضت عليه أن أرسم له خنزيرًا صغيرًا على يده. فجأة، انتشر الخبر، وأحاطت بي مجموعة من الأولاد؛ طلبوا بأعلى أصواتهم أن أرسم لهم على أيديهم الصغيرة المشققة من الطين والبرد، وبشرتهم المحروقة؛ حتى أصبحت جلودًا. أحدهم طلب كندورًا و آخر ثعبانًا، وفضّل آخرون ببغاوات وبُومات،… فيما طلب أخرون شبحًا أو تنينًا.
في وسط تلك الجلبة أراني طفلٌ مُشرّد، لا يكاد يرتفع ياردة عن الأرض، ساعة مرسومة بالحبر الأسود على رسغه، وقال:
- عمي يعيش في ليما، أرسلها لي…
- هل هي مضبوطة بشكل جيد؟ سألته.
- قال: إنها بطيئة قليلًا…”
توجعني جدًا هذه القصة؛ حتى أنني أشعر بملمس جلود الأطفال، ويلسعني طعم الدمع المالح المر المُحتبس في حنجرة غاليانو؛ حتى يكاد يخنقني.
كيف يأخذنا الكاتب في هذه النصوص الإبداعية، إلى سواحل من الدهشة! نسبح في عمق الزرقة الخالدة، نصطاد اللآلئ والمرجان، ننتشي حين تعانق السماء سطح الأرض، ونستحم بماء الغيم.
نمتلك مفاتيح بوابات مدن مسحورة، ندخل إلى عالم الحكايات، نصبح أبطال القصة، ونعيش الوجع الإنساني، أيًا كانت جنسيته. نتوحد بالآلام، ونرفو عباءة الحياة معًا؛ لتحمينا من القهر.
هذه مهمة الكاتب؛ أن يعيش القارئ -بكل حواسه- ما يقرأه. وهذا ما يدعونا لتصنيفه “نصًا إبداعيًا”، يُنتج حياة متجددة، ويقود الكاتب إلى الخلود.
عبر تاريخنا البشري صُنّف عديد من الكتب في مرتبة الإبداع، أو الكنز المعرفي.
ولأننا سكان مدن الأسئلة -كما وصفنا هاني الراهب- ترانا نبحث بين الكتب عما يوازي اللقى الأثرية قيمةً، علّنا نجد ما يقربنا أو يوجهنا إلى عالم قد نجد فيه بعض الإجابات.
هاني الراهب، المسكون بالقلق الذي يولّد إبداعه الحقيقي، ينثر أسئلته عبر شخوص يستحضرها من أزمنة سحيقة، يحييها من جديد، يرسم خطًا في الرمال؛ ثم يبتدع أدوات جديدة، ويحفر أنفاقه السرية؛ ليدخل العوالم المغرقة في القدم، مسافرًا بنا إلى المستقبل، تاركًا لنا شيفرات البوابات لنرتحل معه، ونتبع خريطته وخلطته المدهشة بين الأزمنة؛ بين المجاز والواقع، المكان واللا مكان، يعمّدنا بأسئلته التي لا تنتهي، لنسبر أغوار أصل الحكايات، … نقرع معه جمجمة هذا العالم الموحش، نرفع الستار عن مسرح الحياة؛ لنصرخ في وجه الظلم، نتحرر من كل ما يعيق خطواتنا ونسير حفاة،… ننتعل أحلامنا وحدها، ونذهب معه إلى مواجهة مع الآلهة.
نسألها أين خبأت مفاتيح أسرارها؟
تلك الآلهة التي خانت مهماتها وانحازت إلى أقلية من البشر، وسلمتها قيادة العالم، وسلحتها بالأدوات؛ لتستحكم بمصائر الأكثرية، وتستحوذ عليها!
هكذا نتذوق طعم الجوهرة الفريد؛ حين تضيء بألقها عتمة حياتنا، باحثين عن رحلة جديدة في كتاب؛ لنحصد من هدايا اللغة والمعرفة تجارب غنية، نزرعها في شرايين أحلامنا؛ لتتوهج، فنشفى من التعاسة.
المصدر