on
نعم الموت عمل شاقّ
عمار ديوب
باستثناء الموت الخاطف، فكل موت شاق. في رواية خالد خليفة “الموت عمل شاق” هناك موت مختلف، شاقّ ومأسوي، ربما يتكرر الأمر ذاته في الحروب، حيث المكان أمكنة، والزمان مفتوح دون نهايات، وحيث الأموات لا ينتظرون كثيرًا، ولا بد من دفنهم قبل أن يتفسخوا. حكاية الرواية الأساسية عائلة مكونة من ثلاثة أولاد وأب وأم. الأب المتوفى، عبد اللطيف، له تاريخ سياسي عريق، وثائر في ثورة 2011، ولديه حكاية ثانية، لم تمت قطّ، على الرغم من حدوثها قبل أكثر من خمسة عقود.
عبد اللطيف رجل سبعيني، انخرط في الثورة، ورغب في التكفير عن بعثيّته القديمة، وما أحالت إليه البلاد من شمولية وظلم وفساد، وسوى ذلك كثير، ولكن جسده الهزيل، ومرضه المستمر دفع رفاقه الثوار لنقله من مدينته التي سكنها بعد هجره قريته العنابية، إثر إشعال أخته المتمرّدة النار بجسدها، رافضةً زواجًا عائليًا مدبَّرًا لها، ولم يقف معها برفضها للزواج ذاك، وهو “العلماني”. لم يشأ السبعيني ترك منزله، وأما أولاده، فكل منهم له حياته الخاصة، وغارقون -جميعهم- في مشكلات الحياة. رفاق عبد اللطيف نقلوه إلى مكان حدودي، بين حدود دولة النظام وحدود المناطق الخارجة عن سيطرته، وتسلمه هناك ابنه بلبل، ونعرف -لاحقًا- أن اسمه نبيل. بلبل هذا يعيش موظفًا بسيطًا كمئات الآلاف الذين يشبهونه، ويخشى أن يعرف أهل حيه اسم مدينته الأصلية الثائرة، ويمضي أيامه بين عمله ومنزله.
شكل مجيء والده مشكلة حقيقية، فهو متعايش مع النظام ومستمر في وظيفته، ولكنه الوالد! الرجل مطلوب للأجهزة الأمنية، ولكنه مريض، ولا بد من معالجته. عرف بلبل بطبيبٍ في حيّه، وكان قد اعتُقل ورفض ترك مسكنه، فذهب إليه، وفهم الطبيب المشكلة، ووافق فورًا على متابعة الوضع الصحي للكهل الثائر. تضاعف خوف بلبل، فأحاديث الكهل مع الطبيب لا تنتهي، عن الثورة، وحتمية الانتصار، والمستقبل، والخلاص من عفن أكثر من نصف قرن، وقد تخترق الجدران وتستقر في أذن مخبرٍ. وفي أحد الأيام عاد، فلم يجد صورة الرئيس معلقةً، وركنها -بدوره- في مكان آخر؛ ليعيد تعليقها حالما يغادر والده الحياة.
لم يطل الزمن بالرجل، وغادر أخيرًا إلى الرفيق الأعلى، وهنا تبدأ أحداث الرواية، فكيف سيتم نقل الجثة التي أوصى صاحبها بأن تنقل إلى قريتها الأصلية العنانية في ريف حلب، وأن تُدفن في قبر أخته المحترقة؟ بينما يقطن هو في ريف دمشق، وبالتالي؛ كيف سيتم نقلها في أوضاع الحرب والحواجز، و”الدول” السورية المتعددة، والطيران والقصف. هناك أكثر من أربعمئة كيلو متر، ويتوجب قطعها. اتصل بلبل بأخيه حسين، وهو يملك سيارة “سرفيس”، فتم تجهيزه سريعًا، وأخذا معهما أختهما فاطمة. لم تشفع الجثة للأخوة في حرية الحركة؛ فخضعوا لقوانين السير كما بقية الشاحنات الأخرى، وفي أحد الحواجز الشهيرة بتدقيقها تبيّن -عبر التفييش الأمني- أن صاحب الجثة مطلوب لأفرع أمنية متعددة، ولا بد من فحصها للتأكد من أنها هي فعلًا للاسم المطلوب، واعتُقِلت الجثة. تم توقيف الأولاد عدة ساعات، ولولا رشوة دسمة، لما استطاعوا الإفلات من الحاجز؛ المال في زمن الحرب يحلّ أكبر المشكلات.
كانت حواجز النظام متفاوتة القسوة، وهذا يتباين، فإن كانت تتبع للأجهزة الأمنية؛ فمشكلة كبيرة ستعترض الأخوة، وإن كانت للجيش؛ فالأمر سيكون أسهل، وحالما يصبحون على الأراضي الخارجة عن سيطرة النظام، تبدأ مشكلات لا نهاية لها، فهناك أرض داعش، وهناك أرض الجيش الحر، وهناك وهناك، وأما القصف فلا نهاية له. وفي إحدى الإمارات تم توقيف بلبل؛ لأنه لم يعرف عدد الركعات لإحدى الصلوات، ولولا تدخل عائلته القوية والمسلحة؛ لبقي لدى التنظيم الجهادي، ليتعلم في دورة الفقه والشرع. الجثة التي أصبح الدود يخرج منها، ورائحتها تملأ الأجواء، سببت للأخوة هجوم الكلاب المفترسة، والتي أصبحت تعتاش على الجثث المتروكة لحيوانات الأرض. هنا يستعرض الكاتب البلدات المدمرة والخالية من السكان، في مشهد يتكرر في الروايات والأفلام التي تتحدث عن الحرب، فلا يوجد فيها سكان، وهناك كلاب متوحشة، والقصف الجوي لا يتوقف، وتندر الحياة البشرية؛ فالجميع ترك البلاد أو ذهب إلى مناطق أكثر أمنًا.
يُظهر الكاتب تطورات الثورة عبر شخصية لميا، فقد اشتركت في التظاهرات، ثم توقفت حالما زاد النظام في القمع والقتل، ولميا هذه كانت حبيبة بلبل في أثناء الجامعة، وظلت علاقتها فيه مستمرة، وقد اضطر بلبل وأخوته للذهاب إلى قرية زوجها؛ للمبيت والاستراحة، وهي من ديانة مختلفة، ولم يتأخر الكاتب بتصوير الحب القديم وتجدّد الشعور به في أي فرصة، وكأن الحب الذي وجد مرة لا يموت أبدًا. أما الأب والطبيب فلم يتخليا عن حلمهما الثوري قطّ، على الرغم من كل تطورات الثورة والأسلمة والتسليح والقمع الشديد؛ نبيل خاف منها منذ البداية وانزوى، أما حسين فلم تعنيه، وخاف على مصالحه؛ حسين هذا لديه ثأر مع والده الذي كان يستهزئ به وبخياراته في الحياة، كترك التدريس وتحوله إلى سائق عند راقصات روسيات، وهكذا، وكأن الكتاب يستهزئ معه من مرحلة تاريخية كاملة، ويحملها كل مشكلات الحاضر، وأنه أصبحت جثة متفسخة ولا بد من دفنها. في الرحلة الطويلة كاد حسين أن يرمي الجثة أكثر من مرة، وسخر من أبيه وأفكاره، وكان سعيدًا بتفسخ الجثة وتعفنها وخروج الدود وسوائل كريهة منها.
ربما كان على خالد خليفة استخدام آليات مختلفة لتوضيح مآلات سورية طوال خمس سنوات، وربما شكلت حكاية الرواية عائقًا أمام رحابة الخيال، والولوج في قضايا أكثر تعقيدًا وشمولية لمشكلات ما بعد 2011، بشكل خاص. أعلم أن الرواية ليست نسخة عن الواقع، ولو كانت كذلك يجب رميها في القمامة، ولكنها كذلك، وطالما تتصدى للواقع كان عليها أن تتوسع في التعبير عنه.
المصدر