on
إعادة افتتاح متحف معركة «فردان» في فرنسا
مئة عام مرّت على معركة «فردان»، أطول المعارك في الحرب العالمية الأولى وأكثرها دموية، فقد راح ضحيتها أكثر من 300 ألف قتيل و400 ألف جريح من الجانبين الفرنسي والألماني في أقلّ من سنة. ما يدفعنا إلى الحديث اليوم عن هذه المعركة هو التجديد الكبير الذي خضع له المتحف الذي يحمل اسم «ميموريال دو فردان» والذي يعود إنشاؤه الى عام 1967 على الأرض التي دارت فيها المعركة، وذلك لتخليد تلك الذكرى والتعلّم من أمثولاتها.
منذ تأسيسه، صار هذا المتحف من أهمّ المتاحف الأوروبية المخصصة للحرب العالمية الأولى، غير أنه مع مرور الوقت أصيب بالشيخوخة فأغلق عام 2013 من أجل تجديده. واليوم أعيد افتتاحه بعدما انتهت أعمال التحديث التي كلفت نحو 13 مليون يورو وأشرف عليها فريق من المهندسين والمصممين والمتخصصين بعلم المتاحف، فصار متحفاً عصرياً بكل معنى الكلمة، بهندسته الداخلية والخارجية على السواء. وهو يعتمد أحدث الوسائل السمعية والبصرية ليروي قصة هذه الحرب مستنداً إلى وثائق نادرة وصور وشهادات إنسانية قادرة على جذب أجيال من الشباب من كل الجنسيات الأوروبية. أما النصوص والشروح، فهي مثبتة باللغات الفرنسية والألمانية والإنكليزية. تلك النصوص تستعيد أجواء الحرب وأصوات المدافع والحياة اليومية للجنود تحت القصف ومعاناتهم وآلامهم المبرحة في ما يعرف بِـ «جحيم فردان» خلال مرحلة زمنية امتدت عشرة أشهر عام 1916.
يكمن الجديد في مقاربة هذا الموضوع التاريخي بصورة تخطت الخطاب القومي الفرنسي الذي هيمن على السنوات التي تلت الحربين العالميتين، لتصبح مقاربة إنسانية تعتمد على أسس تعليمية وتتوجه الى الطلاب في المدارس والجامعات كباراً وصغاراً.
«انتهى زمن العداء الألماني- الفرنسي كما عرفناه في السابق، واليوم على الأجيال الجديدة أن تتعلم كيف تبني تاريخاً أوروبياً مشتركاً على الرغم من النزعات المتطرفة والمشاعر العنصرية التي ما زالت حاضرة في المشهد الأوروبي»، قال لنا تييري هوبشير، المدير الحالي لمتحف «فردان»، أثناء لقائه بمجموعة من الإعلاميين دعيت خصيصاً الى المتحف، للتعرف إلى حلته الجديدة وعلى النشاطات المقامة طوال عام بمناسبة مئوية معركة فردان.
هذه المقاربة الإنسانية لمعركة «فردان» وللحرب العالمية الأولى تتفق اليوم مع السياسة الفرنسية والألمانية الرسمية. وهنا لا بد من التذكير بأن هذه السياسة بدأت فعلياً بعدما دعا الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران عام 1984 المستشار الألماني هلموت كول الى زيارة «فردان» ومقابرها المخصصة للجنود الضحايا من الجانبين، فكان ذلك اللقاء هو الأساس في بناء ذاكرة مشتركة بعيدة عن أحقاد الماضي وأوجاعه. وفي أيار (مايو) الماضي، ولمناسبة مرور مئة عام على معركة «فردان»، التقى كل من الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الألمانية أنغيلا مركل في موقع المعركة، بمشاركة أربعة آلاف شاب فرنسي وألماني، لتأكيد هذه المصالحة بين الشعبين، وشددا على قدرة الجانبين على إيجاد التسويات التاريخية.
وسيقيم متحف «فردان» طوال العام نشاطات ومؤتمرات بمناسبة مئوية المعركة التاريخية، ومن أهمها مؤتمر بعنوان «فردان، أرض الصحة» ومعرض استثنائي افتتح أخيراً تحت عنوان «إسعافات الجرحى والضحايا من الحرب العالمية الأولى الى اليوم»، وهو يروي بالوثائق والصور كيف كانت تتم عمليات نجدة الجنود وكذلك كيف ولدت المنظمات والجمعيات الإنسانية وأولها الصليب الأحمر الذي أسسه رجل الأعمال السويسري هنري دونان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعدما استأثر به ما شاهده من أهوال الحروب. عند عودتنا من متحف «فردان» الى باريس مررنا بمقابر «فردان» حيث سار كل من الرئيس فرنسوا ميتران والمستشار هلموت كول عام 1984 متشابكي الأيدي كرمز لمرحلة جديدة من تاريخ أوروبا. ما لفتنا هناك هو وجود مقبرة مخصصة للجنود المسلمين الذين قضوا في معركة «فردان» في زمن كانت دول المغرب العربي وبعض دول أفريقيا السوداء لا تزال خاضعة للحكم الفرنسي وكان لهم دور مهم في انتصار فرنسا في هذه المعركة الحاسمة. هناك أيضاً مقبرة للجنود اليهود. أي أن ضحايا «فردان» وقتلاها يعكسون طبيعة المجتمع الفرنسي بتنوّعه وتعدديته. وكانت قد برزت في السنوات الأخيرة جهود كثيرة لإبراز دور المسلمين في الدفاع عن فرنسا ضد أعدائها في تلك الحقبة.
مدينة «فردان» التي ارتبط اسمها بواحدة من أعنف المعارك، تتحوّل اليوم رمزاً للوحدة وتكشف عبثية الحروب التي تمزّق النسيج الحيّ لدى الشعوب وتدفعها نحو الدمار والموت. داخل متحف الحرب هذا، يحلم الإنسان لو أنّ حروب العالم أجمع تصبح كلّها، وفي يوم قريب، محصورة داخل واجهات المتاحف ومجرّد ذكرى، فيتوقف هذا النزف التي تعانيه البشرية منذ بداية التاريخ الإنساني، ويعانيه اليوم بالأخص العالم العربي والإسلامي، ويرتقي العالم أخيراً إلى مستوى تتحقق فيه إنسانية الإنسان.
صدى الشام