on
حرب الموصل ومفارقاتها الخطيرة
تحرص واشنطن على التشديد بأن معركة طرد “داعش” من الموصل هي مواجهة تخوضها القوات والقوى العراقية بدعم أميركي. ينسجم هذا التوصيف مع مذهب أوباما القائم على فكرة “القيادة من خلف”، وعدم الدخول في حروب مباشرة.
لكن مع ذلك، تبدو معركة الموصل أميركية بكافة جوانبها، باستثناء الدور الميداني الأمامي. ما عداه، لا يخفي المعنيون في واشنطن بأن إعدادها وتسليحها وتدريب قواتها وتخطيط عملياتها، فضلاً عن الإرشاد القتالي الميداني، كله أميركي. حتى التوقيت الذي نفت الإدارة وجود علاقة له بالانتخابات، أميركي. فليس صدفة أن يجري تحديده عشية معركة الرئاسة، والتي بات موعد حسمها على مسافة أقل من ثلاثة أسابيع. خاصّة أن القوات العراقية لا تزال “ضعيفة” التدريب والتماسك، حسب الخبير الاستراتيجي من “مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية” في واشنطن، أنطوني كوردسمان.
من هنا كان الاهتمام الكبير في واشنطن بهذه الجولة العسكرية الموعودة، وبمتابعة سير عملياتها، فهي رهان كبير لإدارة أوباما. هزيمة “داعش” في الموصل تعطي مقاربة الرئيس –القتال بواسطة الغير– صكَّ براءة، خاصة أنها نجحت في الرمادي والفلوجة وتكريت، وهو ما يحرص المسؤولون على التذكير به. كما من شأنها أن “تعزز نفوذ” واشنطن في العراق، وربما تسهّل مطاردة التنظيم لاحقاً في سورية، حسب ما يرى محللون، ومنهم كوردسمان. وما لا يقل شأناً عن ذلك هو أن واشنطن، في هذه الحالة، تكون قد “أعادت شيئاً من التوازن مع روسيا” في المنطقة.
في هذا الإطار، وبالذات الشق الميداني منه، يميل المختصون بالشؤون العسكرية إلى الاعتقاد بأن الموصل “عائدة” في نهاية المعركة، ذلك أنه تم حشد الإمكانات اللازمة؛ البشرية والحربية، لحسم أمرها. ذلك أيضاً ما يستشف من نبرة وزير الدفاع، آشتون كارتر، فكلامه يشير إلى أنه لو لم يتحقق الحد الأدنى من شروط المواجهة لما تقرر الهجوم. إدارة أوباما، وبالتحديد الرئيس نفسه، تدرك ثمن التعثر والنزف البطيء، وما يجرّه من خطر التورّط المديد الذي نأى الرئيس عن احتمالاته، وتحمّل الكثير من الانتقادات بسببه، خاصة أن ولايته تشرف على نهايتها، ويحرص على عدم تلطيخ تركته بمأزق من هذا النوع.
وثمّة سيناريو يوحي بأن وزارة الدفاع الأميركية “البنتاغون” ربّما تكون قد بنت حساباتها على أساس أن “داعش” لن يقوى على تحمّل الضغط العسكري الذي جرى الإعداد له؛ وبالتالي، فإنه من غير المستبعد أن يفضّل الانسحاب باتجاه الرقة، لكونها تشكل المأوى الآمن نسبياً له، أكثر من العراق، لأسباب ميدانية وسياسية معروفة.
لكنه يظل سيناريو مستبعداً في نظر الذين يرجّحون مواجهة ضارية من المتوقع أن يقاتل “داعش” خلالها حتى الرمق الأخير. فالانسحاب يؤذي معنويات أنصاره، ويقلّص قدراته في مجالي التجنيد والتمويل.
من هنا تنبع التخوفات من تداعيات مثل هذه المجابهة الكاسرة، والتي لم يجر الاحتياط لها. فالسؤال عن “ماذا بعد الشق العسكري؟”، محاط بالتعتيم في واشنطن. الإدارة يبدو أنها تركت التعامل مع الذيول إلى حين الفراغ من العمليات. من يدخل المدينة؟ من يحكمها؟ علاقتها مع بغداد؟ من يؤوي النازحين؟ وكيف ستكون مواقف القوى المشاركة؟ من “الحشد الشعبي” إلى الأكراد وانتهاء بالأتراك، والذين تبدو واشنطن غير مرتاحة لتدخلهم عنوة في العمل العسكري في الموصل.
أسئلة مفتوحة تثير الخشية من تفاعلها، بحيث تنقل المرحلة اللاحقة إلى وضع “أتعس من المرحلة الراهنة”، لا سيما إذا أدّت الاحتكاكات والتوترات إلى انفجار الحساسيات المذهبية والعرقية، بما قد يجدد اشتعال النزاعات الأهلية.
وقد نسب أحد المطلعين إلى فريق من المسؤولين الأميركيين قولهم إن الإدارة معنية، الآن، بالتركيز على حسم الجانب العسكري، وبعده يتم التعاطي مع آثاره، من خلال لعب واشنطن دورَ “الوسيط بين الأطراف المعنية”، لتدبير وضع المدينة بطريقة تكفل ضبط الصراعات حولها. مقاربة تشي بأن قرار المعركة حكمته العجلة الأميركية وحساباتها، بما يعطي للتداعيات مرتبة ثانوية من حيث الاهتمام. المهم أن تسجل واشنطن هدفاً في مرمى “داعش”. أما الباقي فهو مؤجل إلى حينه!
المفارقة الصارخة في الوضع هي أن الخلاص من “داعش” في الموصل، والذي من المفترض أن يشحن مسيرة الوحدة العراقية بالمزيد من عناصر اللحمة؛ قد ينتهي إلى نقيض ذلك. الأغرب أن يكون وجود “داعش” في العراق قد ضبط عوامل انفجار ساحته، في حين قد يؤدي ترحيله عنها إلى تأجيج عوامل تصديع ما تبقى من الهيكل. ابحث عن العطب الأصلي في نواة هذه المعادلة.
صدى الشام