القتل بوصفه جوهر السياسة

22 أكتوبر، 2016

رشيد الحاج صالح

يشن التنظيم الأسدي من حين لآخر موجة من الاغتيالات تطال السوريين، وحتى اللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين، وذلك لتوطيد أركان حكمه والنيل من معارضيه. فالتنظيم الأسدي يُمارس الاغتيالات ليست بوصفها عملًا يراد منه التخلص من خصم هنا أو مناوئ هناك، بل إن تلك الاغتيالات تمثل جوهر السياسة، بحيث تنقلب السياسة نفسها عنده إلى فن للاغتيالات، ليس إلا.

هذا الاستنتاج يمكن الحصول عليه -بسهولة- من خلال تتبع تاريخ الاغتيالات التي نفذها التنظيم الأسدي منذ بداية السبعينات حتى اليوم؛ حتى أن التطلع الغريزي للاغتيال يكاد يهيمن على مقاربة التنظيم الأسدي لأي مشكلة واجهته قرابة الخمسين عامًا الماضية، ويبدو أن هذه الغريزة نمت وتوحشت مع نجاح الأسد الأب في موجة الاغتيالات التي نفذها إبّان استيلائه غلى الحكم في سورية، ثم أعاد تنفيذها على نطاق واسع، في ثمانينيات القرن العشرين خلال مواجهته للإخوان المسلمين في سورية، وأيضًا خلال إخضاعه لبنان والفلسطينيين في سبعينيات القرن المنصرم لمشيئته الشخصية، وصولاً إلى نحر رئيس الوزراء السوري السابق محمود الزعبي 1999، واغتيال وزير الداخلية السابق غازي كنعان 2005، وموجة الاغتيالات في لبنان عام 2005، حتى عودة الاغتيالات؛ لتتصدر العمل السياسي في سورية مع بداية الثورة، واغتيال البوطي والخزنوي وآصف شوكت ومشعل تمو ورستم غزالة والبلعوس…، ومن يومها تحولت سياسة الاغتيالات إلى “طبع”، يدخل في تكوين الشخصية الداخلي، يسميه إيك فروم بـ “الطبع النكروفيلي” Necrophilia وهو نوع من الشهوة المُعقلنة؛ للتخلص من الآخرين وقتلهم بنوع من الاعتزاز والتشفي.

بالنسبة لوضع الاغتيالات السياسية لشخصيات مدنية وثقافية وعلمية في سورية، والتي قيل إن جماعة الإخوان المسلمين، وجماعات “إرهابية” فيما بعد، قد ارتكبتها، منذ فترة أواخر السبعينيات حتى اليوم، فيمكن القول إن التنظيم الأسدي أدارها خير إدارة واستثمرها خير استثمار، وجنى نتائجها بطريقة جلبت له مزيدًا من التأييد من جهة، ومزيدًا من العزلة للإخوان المسلمين من جهة ثانية، خاصة أن تلك الاغتيالات كانت تتم في أوقات تحدث فيها تفجيرات، تذهب بمئات المدنيين العزل، الأمر الذي جعل الناس يستنكرونها ويرفضونها رفضًا قاطعًا، أيًا كانت الأسباب والدوافع.

في الحقيقة، وفي دولة يحكمها نظام مثل التنظيم الأسدي، لا يمكن تحديد من هو القاتل بدقة، ولكن يمكن استنتاج هويته من نقطتين أساسيتين: الأولى المستفيد من الاغتيال وتداعياته، والثانية التركيز على أسباب الاغتيال ودوافعه.

بالنسبة للمستفيد من الاغتيالات، فإن الإخوان المسلمين -وقتئذ- لم يجنوا ثمارها، ولم يكن متوقعًا من تلك الاغتيالات أن تؤثر في موازين القوى، بل على العكس فقد زادت من عزلة الإخوان، خاصة أن الإخوان أنفسهم كانوا منقسمين حول استخدام العنف ضد العسكريين، فما بالك بالعنف ضد المدنيين. أما التنظيم الأسدي، فقد استفاد من العنف ضد المدنيين؛ لتشويه صورة الإخوان وعزلهم وتخفيض رصيد شعبيتهم؛ ما يعني -في النهاية- أن الفرضية المرجحة هي أن التنظيم الأسدي هو من سهّل مثل تلك الاغتيالات، وأشرف عليها وشجعها، وقد يكون هو من ارتكبها أيضًا في بعض الحالات.

أما بالنسبة للأسباب التي قدمها التنظيم الأسدي لتلك الاغتيالات، فلا تقنع التفكير الحصيف والجاد، فقد قيل أن اغتيال الدكتور محمد الفاضل، وهو أستاذ الحقوق المعروف في جامعة دمشق عام 1977، يعود إلى أنه يدعو لتطبيق القوانين الوضعية، وإنهاء العمل بالقوانين المستمدة من الشريعة، علمًا أن كتبه لا تذهب إلى مثل هكذا إلغاء، أما اغتيال محمد سعيد رمضان البوطي عام 2013ـ فقيل أنه يعود إلى أنه صوفي ومؤيد للنظام، واغتيال المذيع محمد حوراني عام 1982 (له شعبية كبيرة وشيّعه الآلاف في دمشق)، فقيل أنه يعود لتأييده النظام، على الرغم من أنه كان -أيضًا- من المطالبين بالإصلاح وكبح جماح الفساد… من الواضح أن هذه الحجج ليست كافية لتفكير أقطاب الإسلام السياسي في اغتيالهم؛ لأن الأولى هو التفكير باغتيال من هم أخطر منهم بكثير، أشخاص يعتمد عليهم النظام اعتمادًا حقيقي.

بعد اندلاع الثورة، استخرج التنظيم الأسدي سياسة الاغتيالات البارع فيها من أدراجه (حقق انتصارات مذهلة عن طريقها في لبنان قبل سنوات قليلة)، وقد طالت الاغتيالات هذه المرة جميع الفئات والشرائح، ابتداءً من المقربين من بشار الأسد في الصف الأول: آصف شوكت، حسن تركماني، حسن راجحة ( تعرضوا لمحاولة اغتيال قبل أسابيع من اغتيالهم في المكان نفسه، وهو مقر مكتب الأمن القومي بدمشق)، وانتهاء بخطباء لجوامع وعدد من الصحافيين والناشطين، كما انتشرت ظاهرة قنص المتظاهرين، وطبعًا المتهم الدائم من التنظيم الأسدي بهذه الاغتيالات والتصفيات كلها هو “الجماعات الإرهابية”؛ حتى أن السوريين أخذوا يخافون على أي شخص يتبنى مواقف مستقلة عن النظام، حتى ولو لم تكن معادية له معاداة كبيرة، ولذلك وجدنا أن عشرات صفحات الفيسبوك حذرت من اغتيال الشيخ وحيد البلعوس من النظام، قبل أسابيع من اغتياله بالفعل في السويداء 2015، ولا سيما أنه طالب أبناء السويداء بعدم الالتحاق بالخدمة العسكرية (اعترف شخص يدعى وافد أبو ترابه على التلفزيون السوري الرسمي بأنه اغتال الشيخ البلعوس بأوامر من قائد أحد فصائل الجيش الحر في درعا)، وهذا مؤشر واضح على محاولة افتعال فتنة بين أهالي السويداء ودرعا. أما الشيخ معشوق الخزنوي، الذي انتقد النظام بشدة لقتله متظاهرين سوريين أكرادًا في القامشلي، وحضر مجالس عزائهم، فقد اختُطف واغتيل في دمشق، وقال النظام إن عصابة مسلحة اغتالته. مثلما اغتيل الناشط السوري الكردي مشعل تمو، الذي وجه انتقادات للتنظيم الأسدي على يد مسلحين هاجموه في منزل كان متواريًا فيه عن مخابرات التنظيم الأسدي بالقامشلي 2011.

ما يُميّز التنظيم الأسدي في هذه النقطة –كما قلنا قبل قليل- أن الاغتيالات ليست مجرد تكتيك يلجأ إليه في بعض المواقف؛ لتحقيق بعض النقاط أو التضحية بمن لا فائدة منهم، إلا بقتلهم والمطالبة بدمهم، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى حد أن التنظيم الأسدي اعتمد على الاغتيالات سلاحًا استراتيجيًا فعالًا وأساسيًا، منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة. بالتالي؛ فالاغتيالات كانت بالنسبة له الخيار الأول والمهنة التي يجيدها جيدًا؛ لأنه وجد أنها الأكثر فائدة بالنسبة له، وهذا يعني أنها جزء لا يتجزأ من ماهية التنظيم الأسدي، لا يستطيع الاستمرار بدونها، ولا يستطيع حل أي مشكلة تعترضه دون اللجوء إليها، حتى أننا يمكن أن نقول إن فهمه للسياسة يقوم على أنها: “فن الاغتيالات والاستثمار فيها”؛ فهي بالنسبة له تمثل الحل المثالي، والمخرج الذي لم يفكر التنظيم الأسدي بغيره، وليس أدل على ذلك من أنه لم يقتصر في اعتمادها على الداخل، بل تعداه إلى لبنان والأردن، واستخدمها على نطاق واسع مع الفلسطينيين، وما موجة الاغتيالات التي اجتاحت لبنان في عهد بشار الأسد، وبدأت باغتيال رفيق الحريري عام 2005، سوى أنموذج تطبيقي، ينفذه التنظيم الأسدي ضد كل من يقف في وجهه. أما بالنسبة للأردن، فيذكر باتريك سيل في كتابه (الصراع على الشرق الأوسط) أن حافظ الأسد نفذ عدة محاولات اغتيال، طالت عددًا من المسؤولين الأردنيين في الثمانينيات، كان على رأسهم رئيس الوزراء الأردني السابق مضر بدران (بدران أتهم رفعت الأسد في وقتها بمحاولة اغتياله).

أما الصفة الأكثر استفزازًا لاغتيالات التنظيم الأسدي، فهي “الفبركة الساذجة” (وقد تكون السذاجة هنا متعمدة)؛ فاعترافات قاتل الشيخ وحيد البلعوس، ورواية العصابة التي خطفت واغتالت الشيخ معشوق الخزنوي، والروايات التي تناقلها مؤيدو التنظيم الأسدي بأن تركيا هي من تقف وراء اغتيال مشعل تمو، والفيديو الذي صور اغتيال محمد سعيد رمضان البوطي، والروايات عن استهداف قناصة الجماعات الإرهابية للمتظاهرين..، كثيرًا ما تدفع المرء إلى الإحساس بأن الاستغباء والفبركة فيها متعمدين (غالبية المؤيدين يصدقونها). ويعود ذلك الاستغباء إلى أن التنظيم الأسدي لا يستطيع التفكير بالسوريين، بوصفهم أشخاصًا ناضجين ويمتلكون قدرًا لا بأس به من الوعي السياسي أولًا، وإلى أنه غير مهتم بتصديقهم لها؛ لأنه غير مهتم بهم أصلًا ثانيًا، وإلى أنه يريد –في النهاية- تمرير الاستغباء بوصفه وسيلة للقهر والتخويف ثالثًا (تلازم صفتي الإجرام والغباء تزيد من الرعب تجاه من يحملهما مجتمعتين).

زد على ذلك أن الكذب على الآخر بسذاجة -بحد ذاته- يعني أنك تستهتر به، وإلا لما كذبت عليه بهذه الطريقة، فنحن لا نكذب بسذاجة إلا على الأطفال، أو على من نعدّهم تافهين ولا يهمنا أمرهم. وهذا ما يعرف في علم النفس بـ “الكذب الوقح”، أي: أنك تكذب وتعرف أنك تكذب، وتعرف أن الآخرين يعرفون أن تكذب، ومع ذلك تستمر في الكذب، ولا تتحرج منه. فالغباء هنا بقصد التخويف والكذب قصده التهميش.

سبب حديثنا عن الكذب -هنا- أن التنظيم الأسدي لا يعرف أن يمارس السياسة إلا بوصفها الممكنات التي تؤدي إليها الاغتيالات السياسية، سواء على يده أو على يد الإسلاميين؛ وبذلك يصبح وصفه بـ “مافيا سياسية”، تتخذ من الاغتيالات والابتزاز والتخويف أسلوبًا لحياتها، الوصف الأنسب للتنظيم الأسدي في مرحلتي الأب والابن. أما حديث باتريك سيل وغيره من الكتاب المأجورين (أشرف باسل الأسد على توزيع كتبه عن الأسد)، عن أن حافظ الأسد كان سياسيًا محترفًا وداهية، فيذكرنا بنظريات الضابط في جيش التنظيم الأسدي سهيل الحسن حول أعداء العالم.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]