on
بحثًا عن “ديمقراطية سورية”
محمد ديبو
الربيع العربي لم يهدم أسس السلطات العربية وحدها، بل زلزل -أيضًا- كثيرًا من الأفكار المكوّنة في الأذهان عن واقع عصي على أن يكون كما نريد؛ إذ بيّن مسار الأحداث أنّ السفن لم تجر وفق تيار تفكيرنا، بل شقت طرقًا خاصة بها، لا نزال نفعّل جهدنا لفهمها وملاحقة تحوّلاتها، سعيًا منا لوضع تنظيم أو نظام ينقلها من خانة الفوضى التي نراها اليوم إلى خانة المأسسة، فالدولة التي نريد.
في الوقت الذي كنّا نظن أنّ كثيرًا من الأفكار البراقة التي نطالب بها، لا تحتاج أكثر من إزالة نظام الاستبداد، فاجأنا الواقع بأنّ داخل الثورات وداخلنا كثير من دكتاتوريات وثقافات وأفعال وممارسات، تعيق هذه المطالب، فضلًا عن كون تصوّرنا عن هذه المطالب والأفكار لا ينطبق على واقع لم يحتك الفاعلون السياسيون والثقافيون به احتكاكًا جدّيًا وفاعلًا، إلا بعد الثورة، وذلك بفعل أن أغلب هذه الأفكار، هي نتاج تفكير تلك النخبة التي وضعت أفكارها من برازخها البعيدة عن الواقع.
لم تكن الأفكار والنظريات في سورية وعنها -يومًا (إلا ما ندر) – مبنية معرفيًا بطريقة صحيحة، بقدر ما كانت نتاج تساقط ثمار الأيديولوجيات المهيمنة دوليًا في واقع هش وضعيف، قابل لاستقبال أيّ شيء بسبب فراغ دواخله، فالاشتراكية والليبرالية والقومية (السورية والعربية) والشيوعية و…إلخ، لم تكن إلا صدى لأفكار عالمية سادت في زمن ما، ووجدت من يتلقّفها داخليًا، وليس في هذا الأمر عيب، فالأفكار دائمًا تنتقل بين الثقافات، بل يكمن العيب في أخذها كما هي، ووضعها في سياق وبيئة لا تلائمها بالضرورة؛ إذ لم يتم العمل على تبيئة المفاهيم والأفكار، وبالتالي؛ الممارسات، وفي أحيان أخرى، لم تسمح الأسيقة التاريخية والاستبداد باستكمال عملية التبيئة تلك، وهو ما توّضحه عمليًا العبارات والصفات التي أضيفت إلى أسماء الأحزاب أو الأفكار التي أدرجت في برامج بعض الأحزاب السورية نتاجًا لتحوّل دولي، أسمته تلك الأحزاب مراجعات، لم يكن لها من اسمها نصيب؛ إذ تمّ تبنّي الصفة دون أن تنعكس فعلًا في ممارسات الموصوف، وهذا هو حال مفردة الديمقراطية التي تلقفتها أحزاب سورية كثيرة، وفاعلون سوريون، بوصفها المفتاح السحري لكلّ شيء بعد انهيار الاتحاد السوفياتي خصوصًا، كما كانت سابقًا مفردات من نوع الثورة والاشتراكية والقومية، وهزيمة الرجعية، وحتمية بناء “المجتمع الاشتراكي”؛ بديهيات المرحلة السابقة، في حين أنّها لم تكن أكثر من مفردات معلّقة في سماء واقع تسير أرضه وبشره وفق اتجاهات لها وعيها الخاص وفاعليها الخاصين، الذين لا يعرفون شيئا عن محتوى ما يقال لهم، وإن كانوا يقولونه لفظًا، سواء عن قناعة أو تقية، خوفًا من بطش سلطة، قد تكون سلطة مستبدة، أو سلطة سياقًا عامًا مهيمنًا.
تبدو الديمقراطية اليوم، واحدة من تلك المفاهيم التي مرّت في السياق السوري، وتحوّلت إلى أيديولوجية العصر، فهذه الديمقراطية التي يتبناها الجميع ليست أكثر من مطية؛ للوصول إلى السلطة، أو إحراج الاستبداد، بعيدًا عن أيّ أسئلة عميقة تحفر في المفهوم، وتقرأ إمكانات تطبيقه في واقع متحوّل، زادته الثورة تحوّلًا وغموضًا، فاكتشف الجميع -بعد الثورة- أنّ الشعب السوري الذي افترضنا أنّه يريد الديمقراطية كبديهية، يضم فئات تريد الدولة الإسلامية، وأخرى تضحي -بكلّ بساطة- بالدولة والديمقراطية معًا، حين تتهدّد مصالحها، وأنّ تفسير الديمقراطية يختلف من بيئة إلى أخرى، فضلًا عن أسئلة من نوع: كيف يمكن للديمقراطية أن تشكّل نقطة تلاقي مصالح حقيقية (السياسة مصلحة في النهاية) لأغلب فئات الشعب السوري، وما شكل هذه الديمقراطية ونوعها، بدءًا من البيئات المحلية الصغرى؛ وحتى القمة.
بل، إنّ قراءة بعض التجارب السورية الوليدة في ظلّ الثورة، تبيّن لنا اختلاف التطبيق بين مكان وآخر، ففي داريا شهدنا أنموذجًا راقيًا من ممارسة الديمقراطية في إدارة الشؤون المحلية (وإن بحدّها الأدنى وفي شروط صعبة)، في حين وجدنا “ممارسات ديمقراطية” لا تختلف عن طريقة النظام في مناطق أخرى!
بفعل الاستبداد المديد، لم يكن من الممكن -سابقًا- جعل الأفكار تقف على قدميها (على الرغم من أنّ هذا لم يكن السبب الوحيد لعطب الأفكار هذا)؛ إذ لم يكن ممكنًا إجراء استبانات رأي أو إحصاءات؛ لمعرفة توّجهات الرأي العام وأفكاره وثقافته المتشكّلة حول هذه الأفكار أو الأيديولوجيات، التي يراد فرضها عليه كأنموذج للتحديث والتقدّم.
اليوم، وعلى الرغم من كل المصاعب، تتيح الثورة وضعف سلطة الاستبداد بعضًا مما كان ممنوعًا سابقًا؛ الأمر الذي يحتّم علينا البحث -معرفيًا وواقعيًا- في آليات إنتاج معرفة بكلّ المفاهيم، مستندة إلى ما يقوله الواقع، بعيدًا عن أيّ “يوتوبيات” سابقة، أو أفكار متشكّلة في الذهن، فلكي نكوّن ديمقراطية قابلة للتطبيق والتبيئة سوريًا، علينا أن نفكّك الديمقراطية معرفيًا إلى مكوّناتها (الانتخابات، حرية الرأي، موقع الدين من الحياة السياسة، العلاقة مع العلمانية، نوع النظام…) ثم إجراء استبانات رأي؛ لمعرفة ثقافة الجمهور عن كلّ منها، وتصوّرهم لها ولآليات تطبيقها؛ ليصار -لاحقًا- إلى تحليل هذه المعلومات، وتصنيفها وترتيبها، ووضع نظام ديمقراطي يستند إليها، ويأخذ تفاصيل الواقع ووعي الناس في الحسبان؛ لأنّ الناس هم من سيمارسون الديمقراطية في نهاية المطاف، وسعادتهم وتحقيق مطالبهم هي الهدف النهائي لهذه العملية، وهذا أمر لن يكون من الممكن تحقيقه، إن كان يتضاد من ثقافة الجماهير كليًّا، دون أن يعني ذلك -البتة- الرضوخ لتلك الثقافة وتقديم “ما يطلبه الجمهور”، بل العمل على فهمها ووضع آليات لتطويرها دون صدام، وذلك كلّه لا معنى له دون أن تكون عملية تطوير الديمقراطية وممارستها برنامجًا دائمًا، قابلًا للتطوّر يومًا بعد يوم، فلا مفهوم يبقى كما هو؛ لأنّ المفاهيم كائنات حيّة تنمو وتتطوّر، وتموت أيضًا.
المصدر