‘بوتين: دبُ قطبي أم ثعلب؟’
22 تشرين الأول (أكتوبر)، 2016
توفيق الحلاق
تعابير وجه فلاديمير بوتين المتجهم معظم الوقت، تجعل من الصعب على من يلتقيهم معرفة ما إذا كان غاضبًا أم راضيًا، وحتى عندما تُقدم له هدية نادرة مُميّزة، كما حدث مع ملك البحرين حين أهداه سيفًا دمشقيًا أصيلًا، وقد عجز رؤساء مجموعة “بريكس” في اجتماعهم الأخير (روسيا والبرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا) عن دفعه إلى الابتسام، على الرغم من محاولاتهم رفع الكلفة خلال استراحة الغداء. وهو -إلى ذلك- قادرٌ بوجهه المتجهم هذا على الإدلاء بتصريحات مثيرة للسخرية، دون أن يرف له جفن، كما فعل تعليقًا على حملة دول التحالف لـ “تحرير” الموصل، فقد أوصاهم بالدقة في تصويب مدافعهم؛ كي يقللوا من الضحايا المدنيين قدر الإمكان، بل تمنى عليهم أن لا يصيبوا مدنيًا واحدًا!! في الوقت نفسه الذي كان يدكّ فيه مستشفيات حلب، وخزانات مياهها وأفرانها وأسواقها الشعبية بالقنابل العنقودية، ويوقع مئات الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، قتلى وجرحى تحت أنقاض بيوتهم، وهو من ارتكب مثل هذه الجرائم ضد الإنسانية في حربه الأخيرة ضد الشيشان؛ حيث قال الكاتب الأميركي جاسكون ديل في صحيفة واشنطن بوست: إن المراحل الأولية للحملة العسكرية الروسية في شمالي سورية تشبه -إلى حد بعيد- حرب الروس ضد الشيشان، من حيث قصف المقاتلات الروسية للمناطق المدنية بشكل مكثف وعشوائي، مقدمةً للاجتياح البري بواسطة القوات التي تحاول السيطرة على الأرض.
ما يثير الدهشة أيضًا، ذلك التناقض في شخصية السفاح الذي يُمارس القتل والحصار والترويع والتهجير، وبين شخصية المتعلم الذي يتقن اللغتين الإنكليزية والألمانية إلى جانب الروسية، والحاصل على إجازة في الحقوق وشهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، لكن بالعودة إلى سيرة حياته، ربما نلمح مقدمات لتبلور شخصيته مع بدء علاقته بالسلطتين: السوفياتية السابقة والروسية اللاحقة.
اسمه الكامل فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، ولد في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1952 في مدينة لينينغراد (سان بطرسبرغ) حاليًا، وتخرّج من كلية الحقوق في جامعتها، وفي عام 1975 أدى خدمته العسكرية في جهاز أمن الدولة، وعمل في جمهورية ألمانيا الشرقية بين عامي 1985 و1990، ثم تولّى منصب مساعد رئيس جامعة لينينغراد للشؤون الخارجية، ثم أصبح مستشارًا لرئيس مجلس المدينة، وبعد ذلك تولّى منصب رئاسة لجنة الاتصالات الخارجية في بلدية سان بطرسبورغ عام 1991، وفي الوقت نفسه، تولّى منصب النائب الأول لرئيس حكومة المدينة منذ عام 1994، وفي عام 1998، أصبح نائبًا أولًا لمدير ديوان الرئيس الروسي، ورئيسًا لإدارة الرقابة العامة، ثم أمينًا لمجلس الأمن في روسيا، وفي العام نفسه، اختاره الرئيس بوريس يلتسن رئيسًا لحكومة روسيا الاتحادية، وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه أيضًا، تولّى اختصاصات رئيس روسيا الاتحادية، بعد استقالة يلتسن، وانتُخب بعد ذلك في 26 آذار/ مارس 2000، رئيسًا لروسيا الاتحادية، وأعيد انتخابه عام 2004، ومرة ثالثة في عام 2014.
لم يك هذا التدرّج الوظيفي ليتسارع بهذه الطريقة الدراماتيكية، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي على يد غوربتشيف، ومن ثم تولي بوريس يلتسن الرئاسة، لولا أن دفعته مجموعة من الإليغارشيين الجدد (القلة من الرأسماليين)؛ ليتحول من عنصر أمن صغير في وكالة الاستخبارات الروسية، إلى حاكم أكبر دولة في العالم، ووفق خطتهم، فإن بوريس يلتسن كان جسر المرحلة المهترئ، بين حقبتي الدولة الشمولية المقفلة، والدولة الرأسمالية المنفتحة.
في الفترة الأخيرة من حكم يلتسن، أصبحت صور الرجل، وهو في حال سكر شديد يرقص مع الحسناوات، أو يترنح فيمسكه بعض زعماء مؤتمر العشرين قبل أن يسقط على الأرض،، تحتل وسائل الإعلام حول العالم، في الوقت الذي سيطر فيه سبعة أشخاص فقط على سبعين بالمئة من ميزانية روسيا الاتحادية، وغادر في الفترة نفسها ملايين الفقراء الروس بلادهم؛ ليعملوا، أو ليعيشوا على مساعدات الدول الأوروبية والخليجية التي ذهبوا إليها، وبدا أن روسيا مقبلة على التفكك والاضمحلال؛ نتيجة غياب سلطة الدولة المركزية شبه الكامل، وانتشار الفساد المالي بين مكوناتها بدرجة غير مسبوقة، كانت روسيا بحاجة ماسة لوقف ذلك الانهيار الذي بدأ يضر أيضًا بمصالح السبعة الكبار. وقع الاختيار على فلاديمير بوتين، ربيب الاستخبارات ذائعة الصيت في الحقبة السوفياتية، وربيب المدينة الأعظم في تاريخ روسيا، قبل أن تتحول السلطة للسكن في كرملن موسكو.
بوتين ولد في تلك المدينة نفسها (بطرس بورغ) التي رفعت عن كاهلها اسم لينين غراد في الحقبة السوفياتية، وعادت لتفخر بابنها وأعظم قادة روسيا (بطرس الأكبر، بدلًا من فخرها بأعظم مؤسسي الشيوعية (لينين). وكما يفعل الدب القطبي في اصطياد فرائسه ضمن محيطه، معتمدًا على حاسة شمه ومباغتتها وقضم جمجمتها، فقد أودع رئيس السبعة من الأوليغا السجن وحُجزت ممتلكاته، وكاد أن يقضم بقية الرؤوس، لولا أنهم هربوا بملياراتهم إلى أوروبا الغربية التي منحتهم اللجوء السياسي.
لم يك فلاديمير بوتين أقل جشعًا للمال منهم، فخلق حوله مجموعة جديدة من اللصوص الخبراء في النفط والغاز والإعلام، وبات -في وقت قصير- واحدًا من أثرياء العالم، وفي الوقت ذاته، قدّم نفسه للشعب الروسي على أنه البطل القومي الذي سيُعيد مجد روسيا القيصرية، والرجل المؤمن الذي يذهب إلى الكنيسة الأرثوذكسية ويتلقى مباركة رهبانها.
كان القيصر بطرس الأكبر قد وصل إلى السلطة بواسطة أخته كاثرين، لكنه مع ذلك، أزاحها وتخلص منها وقضى على خصومه قتلًا وتشريدًا، وانفرد بالسلطة، وعاش فترة حكمه يُحارب في سبيل الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأسود، ويحلم في الوصول إلى القسطنطينية؛ ليسبح هناك على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وقبالته أسطول روسيا العظيم، وهكذا أراد القيصر الجديد بوتين، بعدما انفصلت جزيرة القرم وأوكرانيا عن روسيا التي عادت معزولة في يابسة وجليدية قطبية شاسعة بمساحة 17 مليون كم2، وهي أكبر دولة في العالم، دون أن تكون لها شرفة بحرية ترسو عليها سفن أسطولها.
عمليًا، نجح بوتين الثعلب هذه المرة في إعادة جزيرة القرم إلى حظيرته، من خلال انتخابات مدعومة بالمال السياسي، لكنه فشل في فعل الشيء نفسه في أوكرانيا، التي ستظل جرحًا نازفًا في خاصرته، مع ذلك هو ليس متأكدًا من أنه سيستطيع الاحتفاظ بميناء سيمفروبل، نافذته الوحيدة على مياه البحر الأسود الدافئة في عاصمة جزيرة القرم ذات النزعة الانفصالية، التي يمكنها أن تثور في المستقبل مرة أخرى.
لقد كان ميناء طرطوس دائمًا الجوهرة التي قدمها حافظ الأسد للاتحاد السوفياتي، مقابل ديونه المتراكمة من شراء الأسلحة، وفي كل مرة تتفاقم فيها الديون، كان حافظ الأسد يُعطي الروس مزيدًا من حرية الحركة والتوسع في الميناء، إلى أن ذهب بشار الأسد أخيرًا إلى موسكو؛ ليوقع تنازلًا كاملًا عنها، مقابل دعم بوتين لكرسيه قبل أن يسقط.
يبقى أن نُنهي هذا المقال بجمل قليلة عن شخصية بوتين، الذي تشغل صورته وأفعاله وأقواله مساحات مهمة في وسائل الإعلام العالمية:
إنه شخص مناور مخادع، استطاع الانتقال بسلاسة من موقع قوي في السلطة الشيوعية، إلى موقع أقوى في روسيا الرأسمالية، ومن رجل مُلحد كان يطارد المؤمنين من موقعه في المخابرات السوفياتية، إلى رجل متدين أرثوذكسي يدافع عن الأرثوذكسية في العراق وسورية، وباقي الطوائف المسيحية واليزيدية والآشورية، ويقف أمام بابا الفاتيكان، مقدمًا نفسه كحام للمسيحية والأقليات، وهو رجل دموي يقتل أقرب الناس إليه لمجرد أن ينتقد سياسته، وهو مستعد -في كل وقت- لارتكاب المجازر وتدمير المدن فوق ساكنيها، طالما تقف عقبة أمام طموحاته القيصرية، التي قد تطال ذات يوم مدينة اسطنبول، التي حلم بامتلاكها شبيهه بطرس الأكبر.
[sociallocker] [/sociallocker]