حلب ... الرهان الأخير


يحبسُ الحلبيون أنفاسهم مع إعلان قوّات الاحتلال الروسي بدء هدنة مؤقتة في حلب، يتم بموجبها إيقاف القصف العشوائي على أحياء المدينة المحاصرة منذ قرابة الشهرين.

ومع ارتفاع وتيرة المعارك على أطراف أحياء الشرقية والجنوبية الخاضعة لسيطرة الثوار، تحاول الآلة الإعلامية لنظام الأسد ومن معها من ماكينة إعلامية إيرانية وروسية، إرهاب السكان الحلبيين داخل مدينتهم من خلال التذكير المستمر بالباصات الخضر، ذلك الخيار الوحيد والحل السريع الذي قدمته الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للسوريين كخيار بديل عن موتهم تحت الحمم والبراميل والصواريخ الفراغية والارتجاجية.

يسعى نظام الأسد و روسيا قبله وإيران قبلهما، جاهدين، لفرض الباصات الخضر على قرابة 300 ألف شخص يقطن حلب المحاصرة، كأمر واقع على الحلبيين القاطنين بين ركام مدينة أنهكتها طائراتهم ولم تُبقِ منها حجرًا على حجر خصوصًا منشآتها الحيوية ومراكزها الصحية والخدمية ومدارسها وأسواقها ومساجدها..

كل هذا بعد ملحمة حلب الكبرى التي كنت شاهدًا على الكثير من أحداثها وتطوراتها، والتي تم فيها فك الحصار عن حلب بعد أن استمر لقرابة الشهر بعد أن شن جيش الفتح وفصائل غرفة عمليات فتح حلب عمليات عسكرية موسعة من داخل وخارج مدينة حلب أسفرت عن كسر الحصار عن أخطر مدينة في العالم ... حلب.

ففي تاريخ  11- 7- 2016 وفي الساعة الثانية عشرة ظهرًا صعدت في السيارة المصفحة بعد أن ارتديت درعًا واقيًا للرصاص بعد إلحاح السائق خطاب ومسؤول الطبية أبو مراد ومرافق السيارة مدين الذين خرجوا صباح ذلك اليوم في مهمة لجلب عدد من الأطباء والممرضين وبعض الأدوات التقنية والأدوية المفقودة في حلب بعد شبه انقطاع طريق الكاستلو بعد سيطرة قوات الأسد والميليشيات الشيعية على مساحات واسعة من مزارع الملاح الشرقية والجنوبية ..

اجتازت المصفحة مفرق كفر حمرة ودخلت مزارع ضهرة عبد ربه، تتسارع عجلات السيارة لتتسارع معها دقات قلوب كل من في السيارة من أطباء وممرضين، لتتوقف السيارة فجأة في منتصف الطريق الواصل بين ضهرة عبد ربه وبني زيد، لتنعطف في الحرش بين أغصان الأشجار المكسورة والتي تملؤ المكان وتعيق حركة السيارات العسكرية عبر الطريق العسكري الوحيد الذي يسلكه الثوار المضطرين فقط لعبور هذا الطريق، وخصوصًا لنقل الجرحى أو لإدخال ما يندر وجوده داخل حلب من مال ودواء وسلاح.

مما زاد تسارع دقات قلوبنا هو قول السائق الذي عبر الطريق صباحًا بأن معالم الطريق متغيرة خلال بضع ساعات.

قبل الخروج من بين الأشجار لقم الجميع سلاحه واستلَّ بعض مَن في خلفية السيارة صواريخ حرارية محمولة على الكتف تحسبًا لأي طارئ.

كان بحوزتي مسدس 8,5 بداخله 6 رصاصات، وكان في السيارة بندقيتان وبضع قنابل، كنا نظن أنها تكفي للتعامل مع أي طارئ أو في حال الوقوع في كمين، أو حدوث ما لم يكن بالحسبان بعد الأخذ بكل الأسباب لضمان عبور أخطر طُرق العالم لداخل أخطر مدينة في العالم.

خرجت السيارة كأنها تقفز قفزًا من بين حرش الأشجار لطريق الكاستلو المليء بالحفر والشظايا، بسبب الحمم التي ألقتها الطائرات الحربية والمروحية على الطريق الذي تشهد المناطق المتاخمة له معارك هي الأعنف منذ أشهر.

زادت سرعة السيارة وزادت معها الخطورة، كوننا أصبحنا على مرمى قوات الأسد بشكل مباشر، والتي تقدمت في المعركة الأخيرة إلى المزارع الجنوبية الشرقية من منطقة الملاح وباتت على بُعد أقل من 1 كم من طريق الكاستلو.

عيوننا على الساتر المُنشَأ حديثًا والممتد بمحاذاة منعطف طريق الكاستلو في الجهة الجنوبية لمزارع الملاح، وأصابعنا على الزناد والطلقة في بيت النار، باستثناء السائق خطاب المشغول بتفادي الحفر والشظايا التي تملؤ الطريق لمنع تعطل السيارة في أخطر منطقة في العالم.

بسرعة تتجاوز 100 كم في الساعة وبأقل من 5 دقائق قطعت السيارة مسافة 2 كم من طريق الكاستلو وهي المنطقة المكشوفة لقوات النظام المتمركزة بمزارع الملاح.

بدأت دقات قلوبنا تتباطأ شيئًا فشيئًا مع دخول السيارة معامل الشقيف الأكثر أمنًا مع تكبيرات الأطباء في السيارة، إحدى المجموعات كانت باستقبالنا في منطقة الشقيف، وتبادل العناق وكلمات الحمد لله على السلامة.

 لتبدأ بعدها حلب فصلًا جديدًا من الموت اليومي بعد إحكام الخناق على المدينة ووصول قوات النظام بريًّا إلى طريق الكاستلو بتاريخ: 26-7-2016.

 

نزلت في حي الشعار لأواجه موجًا من الناس يسأل عن وضع الطريق؟! وعن إمكانية عبور المدنيين للطريق، لم أجد سوى كلمات الصبر والتفاؤل لأنقلها للناس المتعبة من القصف والخائفة على أطفالها من الجوع والحصار.

لتبدأ بعدها قصص الثبات والصمود مع اشتداد وتيرة القصف على المدينة المحاصرة.

أسبوعان مضيا على الحصار وزادت وتيرة المجازر، وبدأت بعض المحلات والمستودعات تفرغ من المواد الغذائية في مدينة تضم بين جدرانها المهدمة ما يزيد على 300 ألف شخص بينهم نساء وأطفال ومصابون ومعاقون ومرضى! في مدينة اعترف بها الجميع بأنها الأخطر في العالم لما تتعرض له من حرب إبادة وقصف ممنهج تمارسه طائرات روسيا والأسد وميليشيات إيران على الأرض.

بعد طول انتظار..

 بدأت البشريات تأتي، حشود من الفصائل ترافقت مع حراك ثوري وشعبي من داخل مدينة حلب تُوجت بتاريخ 31-7 – 2016 بإعلان يوم الغضب لحلب.

خارج حلب جحافل الثوار تتقدم وتسيطر على مدرسة الحكمة وتلتي الجمعيات والعامرية، داخل حلب حشود من الشباب الثائر تجوب شوارع المدينة وأحياءها، تدعو بالثبات للصامدين على الجبهات، وتؤكد على أهداف الثورة ومبادئها وتندد بصمت العالم عن مجازر روسيا والأسد في حلب.

بشارات النصر والفتح وتقدم الثوار ووصولهم لأسوار المدفعية كانت تصب الزيت على النار، تأتي الأخبار تباعًا، لتتعالى صيحات الثوار لتهز أركان المدينة لتعيد لثورة الشهباء تألقها.

الكل خرج غضبًا لحلب ..

في داخل المدينة وفي خارجها.

إذًا، بدأت المعارك الفعلية لفك الحصار عن حلب، حركة المدينة تغيرت، وجوه الناس تغيرت، ابتسامة الناس عادت إلى وجوههم رغم ما بها من حزن على فقد أخ أو محبّ أو صديق.

الكل يدعو بالنصر والفتح والثبات للثوار، والكل يتابع بشغف تطورات المعارك على أطراف المدينة من داخلها وخارجها.

هدوء نسبي على جبهات المدينة الشمالية على محور الكاستلو قطعه محاولة لواء القدس التقدم إلى مخيم حندرات لانتهاز الفرصة وتوسيع طريق الكاستلو، حيث منيت قوات الأسد ولواء القدس بخسائر فادحة ووقوع عدد من مقاتليها بين قتيل وجريح وأسير، قابله معارك ضارية في جبهات المدينة الجنوبية، زرت حي الشيخ سعيد يوم أن تم تحرير حي ال 1070 ، تكبيرات تأتي من بعيد من خلف أشجار السرو الكثيف الذي يملؤ تجمع الكليات، تترافق مع رشقات متواصلة لرشاشات ومدافع الفاتحين ..

محاولة أولى وثانية لم يستطع الثوار تحقيق تقدم فيها في حي الراموسة، اجتماع طارئ! الكل أعلن الجاهزية، غدًا المحاولة رقم 3، وستتزامن مع بدء الفاتحين اقتحام أحد أشد مواقع النظام تحصينًا وهي تجمع الكليات.

فعلًا حضرت الحشود، وبدأت المدافع التمهيد لتحين ساعة الصفر ليدخل الانغماسيون من عدة محاور، بعد أن دكت سيارة مفخخة غرفة عمليات قوات الأسد وأبادتها عن بكرة أبيها.

 دخلت مع المجموعة الثانية إلى المواقع التي تم نسفها قبل دقائق، عشرات القتلى من جنود الأسد، بعضهم لازال يحاول التقاط أنفاسه الأخيرة، أحدهم عالق تحت أنقاض دشمته التي سقطت فوق رأسه، تابعنا التقدم حتى وصلنا مع غياب شمس ذاك اليوم إلى الطريق الرئيسي وإلى حاجز قوات الأسد على الطريق الواقع بين حي الراموسة وتجمع الكليات.

نتسابق النظرات من بين الجدران والباصات المرفوعة كساتر لحماية الطريق إلى داخل حلب حيث مناطق سيطرة قوات الأسد، نُصغي لسماع تكبيرات الفاتحين بل نصغي حتى لسماع وقع أقدامهم من بين أصوات أزيز الرصاص وهدير المدافع والطائرات...!

حاولنا عبور الطريق، قطعته المجموعة الأولى، أُصيب عدد منها وعاد إلينا، في حين تابع الباقي ليدخلوا كلية المدفعية ويعانقوا الفاتحين، وليطبعوا على جبينهم قبلة مهداة من أهل حلب.

شهر من شهور ملحمة حلب الكبرى توجها الثوار بالغضب لحلب وكسروا الطوق المفروض على المدينة وأحيائها المدمرة الخارجة عن سيطرة الأسد منذ 4 أعوام بعد أن عجز الأسد وحلفاؤه عن إركاعها، رغم آلاف البراميل والصواريخ التي ألقاها على رؤوس ساكنيها.

حلب التي تعتبر بيضة القبان للثوار السوريين، لذلك دخلوها فاتحين وقدموا خيرة قادتهم ومقاتليهم على ثراها، لم تسالم ولم تصالح ولم تتنازل للأسد بهذه السهولة التي يحلم بها الأسد وأتباعه وآلته الإعلامية.

حلب كسبت الرهان الأخير بعد شهرين من حصار ثانٍ، شاركت فيه روسيا وإيران ودول أخرى عديدة تقاطعت مصالحها مع مصالح الأسد.

حلب وبتاريخ 20 -1-2016 وجهت صفعة قوية لنظام والأسد وروسيا بعد أن حشدوا عشرات الباصات الخضر وسيارات الإسعاف متوهمين بأن سيناريو حلب سيكون بهذه السهولة مشابهًا لسيناريوهات أخرى كان آخرها المعضمية!!

لم يدرك الأسد وأتباعه وحلفاؤه أن حلب مختلفة من حيث عدد الثوار فيها وتموضعهم الاستراتيجي وانتشارهم على مساحات واسعة شرق المدينة وفي عمقها القديم حيث لا يبعدون عن ساحة سعد الله 700 متر من ساحة الحطب.

حلب كسبت الرهان الأخير لوقوعها قرب إدلب المحررة حديثًا، ولاتساع ريفها المحرر الذي شكل خزانًا وعمقًا لصمود المدينة.

حلب كسبت الرهان الأخير بصفعة قوية وجهها أهلها الجياع ربما، لكنهم قد شبعوا على مدار 5 سنوات حرية وكرامة فتغيرت موازين الحياة لديهم وباتوا الأقوى والأكثر صمودًا.

حلب العاصمة الاقتصادية، كسبت الرهان الأخير بتلاحم أهلها مع مقاتليها، بالدماء والأشلاء التي قدمتها من أبنائها.

حلب باتت كابوسًا يلاحق الميليشيات الطائفية  الذين خسروا الآلاف من مقاتليهم على امتداد جبهاتها فمن لواء زينبيون إلى فاطميون إلى لواء الباقر وأبو الفضل العباس إلى حركة النجباء وحزب الله اللبناني .. باتوا يدركون تمامًا ما هي حلب؟

 

حلب كسبت الرهان الأخير وباتت مسألة فك حصارها من جديد مسألة وقت!!