رضوان السيد يكتب: مدينة حلب.. ويوم طويل في حياة قصيرة!


رضوان السيد

كنتُ أستمع إلى استغاثة الطبيب الجراح الوحيد الباقي في أحد أحياء شرق حلب، وهو يقول: «كل يومٍ في هذه المدينة المنكوبة هو في عُمُر دهرٍ بل دهور. وإذا كان طويلاً عليّ، فهو طويلٌ جدًا على أطفال حلب ونسائها وشيوخها، فليرحمنا الرحمن الرحيم». وما مضت ساعاتٌ على هذه الاستغاثة حتّى رأيتُ أحد المقاتلين الذين دخلوا إلى دابق وقُراها وهو يقول: صحيحٌ أننا ذاهبون إلى بلدة الباب لطرد «داعش» منها، لكنّ هدفنا التالي هو مدينة حلب لإنقاذها من الغُزاة! والمقاتل صادقٌ في طموحه، لكنّ الوقائع على الأرض تجعل من الـ35 كيلومترًا بين دابق وحلب، بمثابة مئات الأميال!
وليست هذه الأيام في عُمُر حلب ومآسيها بمبعدة عن وقائع نحو الألف عام في حياة هذه المدينة منذ فتحها على أيدي العرب، وإلى أن حسم العثمانيون مسألة السيطرة على محيطها ثم عليها عام 1516 – 1517م. بعد فتح حلب في عام 637م استطاع الروم (= البيزنطيون) دخول حلب اثنتي عشرة مرة عبر خمسمائة عام. وقد اتخذ العرب من دابق ونواحيها خطَّ الدفاع الأول عن حلب. ولأنّ دابقًا تقع وسط مروجٍ ممتدة، فقد ظلّت عُرضة لهجمات الروم في نهضات الدولة البيزنطية، ويقول المسعودي إنّ مرج دابق جرى تبادُلُهُ زُهاء العشرين مرة خلال ثلاثين عامًا، مما دفع العرب إلى بناء تحصينات هائلة في المرج خاصة، ولذلك تكثر في أنحاء المرج «الخرائب» المقترنة بأسماء القرى، التي هي في الأصل حصون، أو آثار لقرى ومزارع كانت عامرة. و«الحدث الحمراء» التي يذكرها المتنبي في قصيدته «على قدر أهل العزم» في امتداح سيف الدولة الحمداني، هي إحدى القلاع، التي كان القصدُ من بنائها الدفاع عن حلب، التي اتخذها سيف الدولة عاصمة لإمارته.
لقد كانت الصوائف والشواتي التي سميتْ بها الحملات العربية أيام الأُمويين والعباسيين، هدفها حفظ محيط حلب من أجل حفظ المدينة. ولأنّ المحيط شاسعٌ جدًا حتى بمقاييس مواصلات اليوم؛ فإنّ مقارّ المرابطين بالصيف والشتاء تحولت بدورها إلى إمارات تصغُر أو تكبُر تبعًا لقدرة مقاتليها على الصمود في وجه الهجمات، إلى أن انتصر السلاجقة في موقعة ملا زكرد عام 1071م وأسروا إمبراطور الروم آنذاك، وتغلغلوا في آسيا الصغرى، فابتعدت الجبهة عن حلب إلى وراء ما صار يُعرفُ اليوم بباب الهوا، الذي صار مركزًا حدوديًا بين تركيا وسوريا. ولذا فإنّ ملاحم الدفاع عن حلب، تُشبه في نظر المؤرّخ ابن الأثير، ملاحم الدفاع عن القدس وعن عسقلان والكرك أيام الحروب الصليبية.
لماذا نذكر هذا كلَّه اليوم؟ نذكره ليس لتعزية النفس فقط (والتعزّي مسوَّغ لسوء الحظ)؛ بل للقول إنّ حلب كانت دائمًا مدينة استراتيجية، لوقوعها على التخوم بين الدول والإمبراطوريات. وهي دُرّة في الموقع والوظائف بحيث كان الجميع حريصين على الاستيلاء عليها مهما بلغ الثمن. والطريف أنّ سليم الأول عندما اندفع للاستيلاء عليها وواجهه الجيش المملوكي بقيادة قنصوه الغوري ملك مصر والشام آنذاك بمرج دابق للدفاع عن حلب؛ إنما كان بين أسباب هجمة العثماني، اتهامه الغوري بالتآمُر مع إسماعيل شاه الصفوي الذي كان سليم قد هزمه في وقعة جالديران عام 1514م. وبالطبع ما كان الصفوي وقتها طامعًا ولا قادرًا على الاقتراب من حلب بعد هزيمته المدوّية. لكنّ الأمر اليوم الذي يستحق الذكر أنّ عشرات الألوف من الإيرانيين والمتأيرنين بحلب ومن حولها، يقاتلون ويموتون هناك، مرة للدفاع عن «العتبات»، ومرة للدفاع عن الأسد الممانع، وهذه المرة كما يقولون لأنهم يريدون استعادة شيعية حلب! وقد كانت حلب مدينة عالمية منذ قرونٍ وقرون وفيها العرب والتركمان والأكراد، وبين هؤلاء جميعًا السنة والشيعة. لكنّ ناصر الدولة ابن حمدان، وابن أخيه سيف الدولة، ويقال إنهما كانا شيعيين، عندما دعاهما الفاطميون للولاء لهم مقابل ترك المدينة بأيديهم، أَبَيا ذلك، وانصرفا للدفاع عن عروبة الدولة وعن بني العباس، باعتبار أنّ الأمر كما قال المتنبي: «لا يصلُحُ عُرْبٌ ملوكُها عَجَمُ».
إنّ التاريخ لا يعيد نفسه، أو أنه يقع التشابه بين البدء ووهم الإعادة، بين المأساة والملهاة. والكوميديا المأساوية اليوم في المدينة ومن حولها هو الصراعُ بين الإيرانيين والأتراك وعلى سوريا والعراق. حضر الإيرانيون إلى حلب بعد حمص بدعوة من الأسد الضرغام أو من دون دعوة، فكان لا بد أن يحضر الترك. في حمص كان همُّ الإيرانيين والمتأيرنين غير القتل والتهجير نبش قبر خالد بن الوليد لأنه كما قالوا كان خصمًا لعلي وفاطمة! ولا ندري في دمشق وحلب قبور من نبشوا وينبشون. بيد أنّ التاريخ لفظاعته يصبح بمثابة الأُسطورة، أو هو يرتقي إلى مصافّها(!). ما قال الأتراك إنهم دخلوا سوريا قاصدين حلب، بل قالوا إنهم يريدون الحيلولة دون قيام كيان كردي على حدودهم. ثم ها هم يقولون الآن إنهم يريدون إقامة المنطقة الآمنة بعد طول انتظار. لكنهم بعد دابق سيجدون أنفسهم في مواجهة الإيرانيين. ولن يقبل الروس والأميركيون ذلك، لكنّ أحدًا من السوريين لا يقبل أيضًا أن تكون حلب للإيرانيين الذين هبَّ الروس لنجدتهم ونجدة الأسد. وكان المتنبي يقول في القصيدة، إياها: «وكيف تُرجّي الروم والروس هَدْمها – وذا الطعنُ آساسٌ لها ودعائمُ»، الروس ما يزالون روسًا، فهل صار الإيرانيون رومًا؟! وبالمناسبة؛ فإنه في بحث حسن نصر الله الحثيث عن فضائل للهجمة الروسية، قال – لا فُضَّ فوه – إنهم منعوا تقسيم سوريا!
ليست حيوات المدن كحيوات الأفراد. إنما ما قيمة المدينة من دون ناسها؟ الجرّاح الحلبي يومُهُ طويل، وليلُهُ أطول، وكان المتنبي قد تساءل عن مشاعر سيف الدولة في ليل حلب المدلهمّ: «فكيف ليلُ فتى الفتيان في حلب؟». نعم إنّ ليل المدن العربية المنكوبة طويلٌ كنهارها، ومن حلب إلى دمشق، إلى تعز وصنعاء وبيروت وبغداد. كلُّ هذه المدن غاصّة بالغُزاة، والذين يريدون الحلولَ محلَّ أهلها، الذين عاشوا فيها وعمروها وصنعوا حياتها وهم يدافعون عنها ولا يقبلون موتها.
في مرويات الآثار الملحمية أنّ دمشق، وأنّ حلب، تبقيان بعد خراب الأمصار. وفي المرويات أيضًا، بحسب الشيخ الطبّاخ، أنّ المُرابط بحلب له عشرة أضعاف أجور المرابطين بالثغور، فهل يكون الطبيب الحلبي منهم؟ إن لم يكن طبيب حلب وأطفالها ومقاتلوها من المرابطين، فمن يكون المرابطون إذن؟

المصدر: الشرق الأوسط

رضوان السيد يكتب: مدينة حلب.. ويوم طويل في حياة قصيرة! على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -


أخبار سوريا 
ميكرو سيريا