سورية التي باتت «جمهورية» في فلك الاتحاد الروسي


الحياة

“خسرنا الأرض ولكن صمد النظام، وهذا انتصار!”

كلام من هذا النوع شاع في الأوساط العربية بعد هزيمة الجيوش السورية والمصرية أمام إسرائيل في حرب 1967. وسواء كان هذا الكلام منسوبًا إلى مرجع رسمي أم كان من تأليف معارضين سياسيين تنديدًا بالهزيمة، فإنه يبقى أبلغ تعبير عن المرارة التي يتذوقها دائمًا المواطن العربي إلى أي نظام انتمى، وهذا ما يتردد خلال هذه المرحلة مع تداعي مكوّنات الشعب السوري وكيانه القومي أمام حرب لا تصمد فيها إلا دول عظمى.

مـــن سوء الأقدار على شعب سورية أن تكون الأساطيل الحربية الجوية والبحرية التي تقتل أولاده، وتدمر مدنه وقراه، وتهجّر من يبقى قادرًا على الفرار، تابعة للدولة العظمى روسيا التي تقدم نفسها على أنها صديقة الشعوب المظلومة، سواء في زمن الاتحاد السوفياتي أو في زمن التغيير الذي بدأ منذ العام 1990.
ليس ثمّة من ينكر أن هناك طوابير من الجماعات والمنظمات التكفيرية المعادية لحرمة الحياة الإنسانية تشارك في الحرب على النظام، لكن الأبرياء هم الشهداء والضحايا. وكما أن تلك الجماعات لا تفرق بين نظام قاتل وشعب قتيل، فإن الغارات الروسية أيضًا، الموجهة بالأشعة، لا تفرق بين موقع عسكري وحي مدني، والضحايا بمعظمهم من الفقراء والمعذبين، وهم بمئات الألوف.

هي السنة السادسة من الحرب على سورية، فماذا بقي منها؟ هناك تصنيف مبتكر للمناطق والمحافظات السورية، وهكذا بات السوريون وسائر العرب يقرأون ويسمعون عن مشاريع تقسيم سورية تحت عناوين وأوصاف مبتكرة. فهناك «سورية المفيدة» و«سورية الملحقات»… وطبعًا «سورية المفيدة» هي مدن دمشق، وحلب، وحماه، واللاذقية، وطرطوس. وهذه «حصة» النظام. أما البقية من سورية فهي متروكة للنزاعات بين أهلها، ولا حساب لثمانية ملايين سوري باتوا موزعين، مشرّدين، في أقطار الشتات على مدار العالم.

وإذ يأمل المحاصرون الباقون في زوايا بيوتهم بأن تتاح لهم فرصة الخروج من الجحيم الذي يطوّقهم، يتساءل المعنيون بالنكبة السورية: تُرى من يبقى من هؤلاء داخل سورية إذا توافرت لهم سبل الخروج الآمن إلى أي دولة في العالم؟ ففي إحصاء لعدد ضحايا غارات النظام خلال النصف الثاني من أيلول (سبتمبر) الماضي قُتل 290 شخصًا، بينهم 57 طفلًا في غارات جوية روسية وسورية، مع قصف مدفعي لقوات النظام على الأحياء الشرقية من مدينة حلب.

مع ذلك يمضي كبار قادة العالم في متابعة مسلسل الكوارث السورية، مؤكدين عجزهم، حتى عن اتخاذ قرار دولي في مجلس الأمن بفرض هدنة تمنح الملايين من المحاصرين فرصة التنفس بأمان. ذلك أن الروسي غير المستعد للموافقة على هدنة يرفع مطرقته في مجلس الأمن رفضًا ومنعًا لأي قرار لا يكون هو كاتب نصّه. وهذا ما فعله مندوب الرئيس بوتين أخيرًا في مجلس الأمن، فحرم الباقين من سكان حلب نعمة التنفس، وهو كان على موعد لزيارة باريس في العشر الأخير من الشهر الحالي، وقد ألغى الزيارة تأكيدًا لرفضه البحث في أي مشروع لمنح الشعب السوري المحاصر فرصة أمان.

هذه الفجاجة الروسية لا تفسير لها سوى أن الرئيس فلاديمير بوتين يجعل من نكبة سورية فرصته، ليس فقط للثأر من دول الغرب على حرمانه من «غنائم» الربيع العربي الدموي الذي لم تتوقف ارتداداته منذ ست سنوات، بل لأن هناك حلمًا أكبر يراوده لاستعادة زمن الاتحاد السوفياتي السابق بدوره ونفوذه ومصالحه، وسورية هي الدولة التي تنصاع للقيادة الروسية، وقد أكدت ذلك بموافقتها على تحويل ميناء طرطوس على امتداد الشاطئ، بحرًا، وبرًا، وفضاء، قاعدة حربية روسية إلى أمد غير محدّد بزمن أو مهمة. وهذا يعني بالأمر الواقع أن سورية باتت جمهورية تدور في فلك الاتحاد الروسي.

ومن المصادفات النادرة أن سورية وروسيا تتشاركان بالاسم في خمسة أحرف عربية. ففي اسم سورية، إذا نزل حرف الراء مكان حرف السين يُلفظ الاسم «روسيا» كذلك إذا نزل حرف السين مكان حرف الراء في اسم «روسيا» يلفظ الإسم «سوريا».

هكذا باتت روسيا متحكمة بمصير سورية ومستقبلها، ولا يخفي الرئيس فلاديمير بوتين اعتداده بهذا الموقع الإستراتيجي في الشرق الأوسط، بل إنه تفوّق على أسلافه من أباطرة الكرملين في زمن الاتحاد السوفياتي، فهو حاليًا شريك مضارب في قضايا المنطقة، بدءًا من إسرائيل التي ينسق معها طلعات الطيران الحربي الروسي فوق الأراضي السورية الجنوبية، مع مراعاته القواعد الإسرائيلية المنتشرة على طول حدود الأراضي السورية المحتلة. كما أن بوتين على تفاهم تام مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، وكأنهما مرتبطان وملتزمان معاهدة غير معلنة. بل إن ما بينهما يتعدى النصوص إلى الثقة المطلقة المتبادلة.

أما على الجانب الشمالي من الأراضي السورية، على خط الحدود مع تركيا، فإن بوتين أكثر من صديق حميم مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقد جاءت مناسبة مؤتمر الطاقة في إسطنبول بين التاسع والعاشر من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي في الوقت المناسب لتثبيت ركائز اتفاقات التعاون المشترك بين أنقره وموسكو، ولتصفية ما تبقى من سحابة سوداء مرّت بين الدولتين إثر إسقاط المقاتلات التركية طائرة حربية قبل نحو شهرين. وقد اغتنم الرئيس التركي مناسبة مؤتمر الطاقة الذي عقد أخيرًا في مدينته المفضلة إسطنبول ليؤكد حق بلاده بمواجهة الإرهاب المنتشر في سورية والعراق، وقد خاطب وفود الدول بنفحة سلام وأمان، إذ دعا الدول الممثلة في المؤتمر إلى شبك الأيدي لإحلال السلام في الشرق الأوسط «بدءًا من توفير السلامة والأمان لأطفال حلب كي يتوجهوا إلى السماء بأحلامهم فلا يرون فوق رؤوسهم طائرات حربية تقصفهم».

لكن هذه العاطفة التركية لا تنفي حقيقتين ثابتتين في المنطقة، وهما أن التركي والإيراني لا يضمران حبًا للعربي… هذا إذا كان من الصعب القول أكثر من ذلك. وما يثير الاهتمام العربي فعلًا هو ذلك الوئام المستجد بين تركيا وإيران، وقد شهدت الأسابيع الأخيرة من مرحلة حكومة رئيس الوزراء التركي السابق داود أوغلو لقاء مع الرئيس الإيراني حسن روحاني تركز على تفعيل التعاون الاقتصادي في مجالات النفط والغاز والطاقة والسياحة، فضلًا عن التعاون في القضايا الجمركية والمصرفية لإزالة كل العقبات أمام زيادة حجم التبادل التجاري بين أنقره وطهران إلى مستوى ثلاثين بليون دولار.

وهنا يبرز الرئيس الروسي حاضرًا بعروضه السخية على إيران الباحثة عن مصادر إنماء وتطور علمي تجدها عند خصوم الولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا الأقرب منهم في الجغرافيا وخطوط المواصلات.

كل تلك الفرص والآفاق تتلاقى أمام «القيصر» الروسي الذي يلتزم حماية النظام السوري والدفاع عنه بكل الإمكانات، مدعومًا من البرلمان الروسي الذي صادق على منح القيادة العسكرية العليا في منطقة «حميميم» صلاحيات من دون حدود، مع السماح للجيش الروسي بنشر منظومات صاروخية جديدة تضاف إلى منظومات أرض – جو دعمًا لأسطول طائرات «سوخوي» الحربية.

فمن، وماذا، على الجانب الأميركي – الأطلسي في هذه الحرب على سورية الشعب والكيان والتاريخ فيما الإدارة الأميركية في عطلة قد لا تنتهي قبل نحو سنة؟

هناك نحو ثلاثة أشهر بانتظار الرئيسة الجديدة (أو الرئيس الجديد) للولايات المتحدة. وبعدها ليس أقل من ستة أشهر من الانتظار لمعرفة اتجاه بوصلة البيت الأبيض.

خمسة أشهر قد تكون كافية لإنجاز جريمة قتل شعب واندثار بلاد كانت إحدى أعلى منارات الشرق والحضارات القديمة.

(*) كاتب لبناني




المصدر