قراقوش السادس عشر


نجم الدين سمان

فلمَّا أفاقَ جحا السوري من نومه؛ رأى حماره غارقًا بين الكتب والمراجع؛ فقال:

– خير إن شاء الله؛ غارقٌ في طلبِ العِلمِ حتى أذنيكَ الطويلتين!

تنهَّد حِمَارَويه: – وجدتُ بأننا ظَلَمنَا المُسمَّى قراقوشًا؛ فأطلقنا على كلِّ حاكمٍ مُستبدٍ اسم قراقوش.

 ثمّ استدرك: – صُبَّ لي بعضًا من قهوتك؛ فَتَلَ رأسي من التدقيق على الريق.

ضحك جحا: عِشنَا حتى شُفنا حميرًا تشربُ النيسكافيه!

فلمّا ارتشفَ حِمارَويه من قهوة صباحه؛ قال:

– وقراقوش شخصيتان؛ الأولُ: كانَ وزيرَ صلاح الدين الأيوبي ونائِبَهُ في مصر؛ والثاني: قراقوش الأسديّ في كتابِ ابنِ مَمَاتِي: الفاشوشُ في أحكامِ قراقوش.

علّق جحا: – والناسُ تمدَحُ الأولَ؛ وتذمُّ الثاني؛ بينما هُمَا شخصٌ واحد؛ فما الحقيقةُ التي خرجتَ بها يا حماري؟!

نَهَقَ حِمَارَويه: –  لكلّ حاكمٍ وَجهَانِ يا جحا أفندي؛ الأول: يكتبه مُؤرِّخُو قصرِه وتُرَوِّجُهُ حاشيته؛ والثاني: نقيضُ الأول؛ يكشفه الناس ويتناقلونه تقويضًا للرواية الرسمية؛ فلطالما زوّر الحكّامً التاريخَ لصالحهم.

علّق جحا: – لكن قراقوشًا بنى القلعةً التي في جبلِ المُقطّم؛ وسورًا من الحجارة الغرانيتية حول القاهرة؛ وكان مَوضعَ ثِقَةِ صلاح الدين الأيوبي؛ فسَلّمَه الإشرافَ على ما تركه الفاطميّون من نفائسَ وكنوز.

قال حمارويه: – لكنّه بناها بإجبار الناسِ على العَمَلِ سُخرَةً؛ برغيفِ واحدٍ يوميًا لكلِّ شخص؛ فمَاتَ كثيرونَ وهم يَفُكُّونَ حجارةَ الأهرامات الصغيرة وينقلونها إلى جبل المُقطّم؛ وسَكَتَ مُؤرّخو القصر عن ذلك؛ كما ماتَ كثيرونَ حين بنى الفراعنةُ أهراماتهم؛ ثمّ حينَ شقُّ “دوليسبيس” قناةَ السويس.

فقال جحا: – لهذا انحازَ الناسُ إلى كتابِ ابنِ مَمَاتِي: الفاشوش في أحكام قراقوش؛ بل أضافوا إليه جيلًا بعد جيل؛ حتى غدا قراقوش رمزًا لكلِّ حاكمٍ مٌستبِد على مَرِّ الأزمنة والعصور.

فنهق حمارويه: – وكان هذا أولَ انتصارٍ للتاريخِ الشعبيِّ على التاريخ السُلطَوِيّ.

قال جحا: – فما شانُ جَدِّي الأول جحا أفندي بكلِّ هذا؟!

ضحك حمارويه: – المُفارقة بأن قراقوشًا؛ كان مملوكًا تركيًا مَخصيًّا؛ بينما جَدُّك “أبو الغصن دُجَين الفزاري” دِمشقيٌّ أمويٌّ؛ وكان يروي الحكايات الساخرة انتقادًا للحكّام الظالمين؛ وكان بخصيتين سليمتين؛ حتى ابتُليِتُ أنا بأحَدِ أحفادِه.

فلمّا حاولَ جحا أن يَرُدَّ؛ قاطَعَهُ حِمَارُهُ مُتابِعًا:

– ويقالُ بأن جَدَّك العباسيّ هو أبو نُوَاسٍ شاعرُ هارون الرشيد؛ وعُرِفَ باسم: جحا بلادِ ما بين النهرين؛ وكان جدُّك المصريُّ من الغَلابَةِ الذين يضحكونَ على العروش والقُرُوش؛ أمّا جَدُّكَ التركيُّ فاسمُهُ: الشيخ نصر الدين خوجة؛ ومسقطُ رأسِه مدينةُ “قونية” حين وُلِدَ فيها إبَّانَ الغزو المغوليّ.

فانتشى جحا السوري: – نحن عائلةٌ عابرةٌ للشعوب والأزمان والقارات.

نهق حمارويه: – لولا ظهورُ سُلالتي؛ التي نقلتكُم مِن مكانٍ إلى مكان؛ لَكُنتُمُ الآن؛ في خبرِ كان.

قال جحا: – ولولا ظُلمُ قراقوش السادس عشر من آلِ الوحش؛ لمَا كُنّا الآنَ؛ أنتَ وأنا لاجِئَينِ في بيزنطة؛ نروي للناسِ حكاياتنا السوريّة؛ فلا يستيقظُ ضميرُ العالم؛ بعدَ كُلِّ دَمِنَا المَسفوكِ.

عَلّق حمارويه: – حتى أنّ بعضَ السوريين وغيرَهُم من العربِ الصامتة؛ يقولونَ: ولماذا قُمتُم بثورةٍ ثُمَّ تَخَاطَفَهَا الرُعَاعُ؛ صَبَرتُم 40 عامًا؛ فلتكن 400 عامٍ حتى تنهارَ مملكته الوراثيَّةُ من تلقاء نفسها!

قال جحا: – ذاكَ قَولُ النَعَامَةِ حين تدفُنُ رأسَهَا في رمالِ الطُغيَان.

فلمّا ارتشفَ حمارويه آخِرَ ما تبقى من فنجان قهوته؛ تنهَّدَ ناهِقًا:

– حتى أنا؛ ما عُدتُ احتمِلُ استبدادَ سُلالتِكَ بسُلالتي. 

ضَحِكَ جحا: – لماذا لم تقوموا بثورَتِكُم علينا معشرَ البشر؟!

فسألَ حمارويه: – فماذا ستكونُ النتيجةُ يا جحا أفندي؟!

قال جحا: – أنزِلُ مِن فوقِ ظَهرِكَ؛ وتركَبُ أنتَ على أكتافي!

 

*- من حكايات جحا السوري وحماره وقراقوش.




المصدر