‘عام على رحيل رائد الحداثة اللونية عمر حمدي: (مالفا)’

23 أكتوبر، 2016

أوس يعقوب

في الثامن عشر من تشرين أول/ أكتوبر 2015، غادر دنيانا الفنان السوري العالمي عمر حمدي (من اصل كردي) الشهير بـ “مالفا”، عن عمر ناهز الثالثة والستين، إثر مرض عضال أفقده الحياة في فيينا، المدينة التي اتخذها مكان سكناه وإنتاجه منذ العام 1978، بعد أن غادر دمشق، وقبلها مدينته الحسكة، حيث ولد في قرية “تل نايف” عام 1951.

ينتمي عمر حمدي، إلى جيل السبعينيات -المرحلة الذهبية في تاريخ الفن التشكيلي السوري-، ويصنفه النقاد على الصعيد العالمي، كواحدٍ من أهمّ الملونين في التاريخ المعاصر، وأهم اسم في تاريخ المدرسة الانطباعية المعاصرة، وهو خامس فنان تشكيلي على مستوى العالم، والكردي السوري الوحيد المسجل اسمه في الموسوعة الفنية العالمية.

“تأجيل اسم عمر حمدي”، وسر (مالفا)

حين وصل عمر حمدي دمشق مطلع سبعينات القرن الماضي، حاول أن يعرض أعماله في صالات الفن التشكيلي، وتذكر عنه حادثة إحراقه للوحاته في صعوبات البدايات الفنية، ومنذ تلك الأيام حمل معه في حله وترحاله تجربته المكافحة الشاقة، ومحبة بلاده وطبيعتها، وسكب روح تحرره ورهافته ونبوغه كله، في لوحات الطبيعة، التي اشترتها أهم المتاحف العالمية وصالات الفن فيها. وقد ترك الراحل بصمة متألقة في خارطة التشكيل العالمي، بعد خمسين سنةً من التفرّغ للفن؛ وكان التشكيل لديه أكثر من صناعة لوحة، وأكثر من ترجمة لون؛ إنه مسؤولية ومصير وإدانة وانتماء، وهو المساحة التي قدم فيها كل ما في داخله.

وفي أحد الحوارات معه، يقول ابن الشمال السوري حول ما إذا كان اسم (مالفا) هو مجرد توقيع يرادف اسم “عمر حمدي” على أعماله الفنية: “إن مالفا هو اسم لوردة الختمية، وكنت أطلقته على مجموعة لوحات لي في أوائل ستينيات القرن الماضي، تلك المجموعة التي رميتها في بئر كانت تتوسط حوش منزلنا، وذلك خوفًا من غضب الوالد. ثم تحوّل مالفا إلى اسم لامرأة، أو لطفلة، كان نايًا ورغيف خبز، لكن الغرب يفكر بطريقة أخرى، ومن أجل ألا نساوم على الأشياء الصغيرة. كان مطلوبًا مني تأجيل اسم “عمر حمدي” فيّ إلى فترة ما، فكان مالفا الاسم البديل”.

ملونٌ صنفت لوحاته كتراث إنساني عالمي

يقول شاعر اللون، عن نفسه في بلاد الغرب: “أنا ببساطة واحد من أهم الملونين في هذا العصر، أنا قادم من سورية، وجذوري ممتدة في الضوء. سأكون آخر من يموت على هذه الأرض”.

وبميراثه اللوني العظيم يٌعدّ عمر حمدي “رائد الحداثة اللونية”، وهو أحد وجوه الحداثة في المحترف السوري، وسيظل معلمًا وفنانًا رائدًا من رواد الحركة الفنية السورية والكردية والعربية والعالمية الكبار واللافتين في عصرنا. وستبقى لوحاته الموزّعة على جدران معظم متاحف العالم محفوظة كتراث إنساني، لما تحمله من خطاب ومفهوم حضاري وثقافي وإنساني.

وعن تجربته ومسيرته التشكيلية يكتب مواطنه الناقد الأكاديمي د. محمود شاهين: “بالمقارنة بين لوحة الفنان حمدي قبل مغادرته سورية عام 1978، وبين لوحته الحالية، نجد أنه غادرنا رسامًا متمكنًا، وعاد إلينا ملونًا مدهشًا. فلوحته القديمة نهضت على بنية غرافيكية، أما لوحته الحالية فتحمل عالمًا ساحرًا من الألوان القوية المنفعلة، الضاجة، والصارخة”

فيما يقول الكاتب والقارئ التشكيلي غريب ملّا زلال، عن فارس اللون العالمي ابن البلد الذي ترجل بعد أن بلغ ما بلغه من شهرة عالمية، كشخص قادم من بيئة قاسية شبه معدمة، ماديًا وثقافيًا وفنيًا: “استطاع مالفا أن يحجز لنفسه حيزًا جميلًا من المكان والزمان؛ حيث كرس حياته عنوانًا للخوض في إنتاج ما هو جميل من أعمال فنية، باتت توقفنا بهمة الظامئ للحياة كما أوقفت الغربيين مطولًا، ليس بوصفه رقمًا فنيًا، بل بوصفه “خالق جمال” بأساليب جعلت لريشته الإيقاع الخاص الذي به سيغني التشكيل الغربي أيضًا. فمالفا ما أن حط به الرحال ضمن مغامرته الشاقة في الوصول حتى ترافق ذلك بمغامرة الانخراط في سياق عمليات لم تكن متاحة لأمثاله، بل كان عليه خلق مقاربة محكومة مسبقًا بالضباب الكثيف، مع الإشارة البدئية بأن عملية البحث لديه كانت تندرج ضمن مغامرته في عدم الانزلاق في المجاهيل، بل رفد تراكمه المعرفي بشيء من ارتياد الأقاصي بكثافة تأملية وضمن سوية قيمية عالية تدفعه -فيما بعد- في حيز انتشاري سيشغله -حتى الأفق الأخير- بثقة الباحث، السارد المحكوم بالقيم الفنية الجمالية، فالمهم هنا قدرته الفائقة في إقناع متلقيه بمصداقية ما ينتج، وذلك عبر رميه بين مفردات عمله وتفاصيله بغلبة الصوت المتعدد على الصوت الواحد”.

رسائل فنان إلى ساحات القتل وأقبية الاستبداد

ويكتب صديقه الفنان التشكيلي السوري صبري يوسف (المقيم في السويد): “عمر حمدي شهقةُ لونٍ متهاطلة من حنينِ السّماء فوقَ آهاتِ المدائن وقرى الشِّمال، حكايةُ ألف سؤالٍ وسؤال، بحثًا عن أبجديّات القصيدة المجدولة عبر حبقِ الألوان، فنَّانٌ معتَّقُ بآهاتِ غربةِ الإنسان مع أخيه الإنسان، شوقٌ لونيّ إلى شلَّالات حلمٍ يتأجّج عطاءً -ليل نهار-، شوقٌ مفتوح إلى عناقِ كائناته المهشّمة على قارعةِ الرُّوح، شوقٌ إلى عناقِ حبيبة تائهة في مهبِّ الانشطار، وجعٌ مبرّحٌ في سماء الحلق ينمو، وجعٌ في خميلة الذّاكرة يحبو، وجعٌ في منعرجاتِ الألوان يزدادُ صفاءً، وجعٌ لم يفارقْ مخيال مالفا على مدى هدهدات الحنين، لونٌ محبوكٌ بعناقِ الرّوح في دنيا من شقاء… يرسم بوحه من لجينِ الرُّوحِ كأنّه في حالة عناقٍ معَ فراديسِ النَّعيم، يرسمُ أحلامه المتلاطمة كأمواجِ البحار فوق هضابِ البلاد المشنوقة من خاصراتها في وضح النّهار، يرسمُ حالات عشقٍ من نكهة الانبهار”.

ومن الضفة الأخرى، كتبت الناقدة الألمانية سابينه شوتس عن “موسيقار اللون”، كما أطلق عليه في الغرب: “نجح مالفا في البقاء خارج سرب الإطار الحداثي للفن الأوروبي، مكتفيًا ببوح غنائي يعكس معاناته الداخلية، وإرثه المحلي. وهو ينهل من ذخيرة فنية وحياتية واسعة التنوع، ومنفتحة على منعطفات تجريبية وتفسيرات فردية، لا تبرح تتخلل أعماله في جميع ثناياها. وتقوم تجربته على أسلوب تركيبي وتكويني، يجمع عددًا كبيرًا من العناصر المنفردة الصغيرة في تكوين موزاييك شامل، ينطوي على ثراء نادر. وتكون النتيجة منمنمات مستمدة من جماليات شرقية وجماليات حديثة، بتفاعل ذكي منبثق من خطاب جدلي متكافئ الأضداد.

لقد رحل (مالفا) قبل عام وهو يرى وطنه الأم ينزف دماً وألماً، وبعد أن كتب على موقعه الرسمي: “خمسون سنةً من التفرّغ، وأنا أحمل في داخلي قصةَ شعبٍ، قصةَ بحثٍ عن سر اللون وقدسيّة التفاصيل، في زمن يحكمه النفاق بدلًا من العدالة؛ أحمل ملامح أطفالي وذاكرة جسدي في جواز سفر مزوَّر، من مكان إلى آخر في هذا العالم. لم أملك سوٍى المنفى في لوحتي، لغةً أو وطنًا يرسم مكان موتي… خمسون سنةً وأنا ما زلت هذا المتأمّل الفاحش بصمتٍ، لجسد الإنسان والشجر والصخر، أكتب رسائلي إلى ساحات القتل وأقبية الاستبداد. أجلس بجانب امرأة أحبها تشبه الشمس، وأنتظر”.

المرأة التي كان يقصدها عمر حمدي بكلامه هذا هي زوجته الفنانة التشكيلية النمساوية “سيلفيا سيفيريوس”، التي أقدمت في 11 شباط (فبراير) الماضي، أي بعد أشهر على وفاته، على الانتحار حين رمت نفسها أمام قطار يمر من أمام منزلها الكائن في حي “كلوسترنيبورغ” في العاصمة النمساوية فيينا.

وللراحل مؤلفات عديدة، منها: “(مالفا) عمر حمدي: الحياة واللون”، باللغة العربية، دمشق 1976. و”قاموس عالم النقد الفني”، باللغة الإنكليزية، فلاش أرت للنشر 1999. و”ألبوم (مالفا) إلى الألفية الجديدة”، معرض أرنوت، نيويورك، الولايات المتحدة الأميركية 2004.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]