المثقفون والوحش الدمويّ


حاتم محمودي

تقدم الكولونيالية نفسها على إنها ضحيّة الإرهاب، لكنّها تتجاهل صنائعها الوحشية التي خلقت أرضية ملائمة لترعرعه، ثم تتجاهل أنها بهذا الشكل تخلق من نفسها آلهة جديدة، هي تاجرة السلاح، إذا أردنا تجسيمها. ويقدّم الإرهابي نفسه على إنه -أيضًا- ضحية لذلك التوحش الاستعماري/ الكولونيالي، فيبرر إقامته في معبد الخرافة على أنه صحوة دينية، ويبرر توضؤه في جفنة مليئة بدم ضحاياه على أنه مسلك للعبور نحو الفضيلة والطهر والجنة.

إننا نقف أمام حداثة فشلت؛ لأنها كانت أقل من طموحها، ينشأ فيها تحالف العلم مع الخرافة، واقتتالهما في الوقت نفسه؛ حتى إننا نصاب بالرعب والهلع، ولا سيما أن لكل منهما مثقفه الداعية، الممجد والمداح.

ثمة مثقف حداثي يدعو إلى مواجهة الإرهاب في شكله الخرافي، وهو في النهاية، مجرّد خادم في بلاطات تلك الكولونيالية، وثمة مثقف كهنوتي يدعو إلى مواجهة عنف هذه الحداثة التي لم تجلب له سوى التفقير والتهميش، فيدّعي مقاومتها دينيّا، ولكنّه في آخر المطاف يظل بحاجة إلى مصانع أسلحتها كي يقتل.  كلاهما -بهذا الشكل- لا يمكن أن يكون سوى لاعب ماهر في تأبيد سنوات الدم والتقاتل داخل ملعب الموت، وإنهما الآن أكثر خطرًا من ذلك القاتل، حارس الجنة، ذلك الذي يطيح بالرؤوس؛ كي يرضي نزعته السادية الطاعنة في التشفي.

فهل يوجد الآن مثقف، خارج هذه الدائرة، يؤسس لثقافة نقدية تجاوزية، تعيد للعالم طفولته خارج نار اللهب ورائحة الشواء البشري؟

ثمّة مثقفون زعموا أنهم أطول الواقفين في ساحات الرّفض ضدّ الإرهاب، ولكنّ ثقافتهم لم تكن نقدية بالحفر في جذور هذه الظاهرة وتفكيكها، ثم مواجهتها فنيًا، على العكس من ذلك، فقد سقطوا في ردود فعل “بافلوفية”، من قبيل ثقافة الهجو والسقوط عند القشرة الخارجية من التصادم معها، أي أنهم لبسوا أقنعة الحداثة اختيارًا لا حلّ دونه، ولكنهم لم يعرفوا عن الحداثة ومآزقها شيئًا.

وقد نتج عن ذلك الموقف عجزهم المريع وفشلهم الدائم في مواجهة هذا التطرّف المرعب؛ ذلك أن الإرهاب هو الذي أنتج خطابهم المتصادم معه، أي أنهم صاروا تجلّيًا لنتائجه. ويعود ذلك إلى فراغهم الفكري وتصحّرهم الأيديولوجي؛ حتى أننا بتنا نتساءل: ماذا كان سيصنع هؤلاء لو لم يكن هناك إرهاب على الإطلاق؟ إن الدور الحقيقي للمثقف ليس تلك المواجهة، ذلك أنها محصلة لما حصل، وإنما تكمن مهمّته في خلق الأثر الفنّي/ الثقافي الذي يمنع الإرهاب من النشوء، وبما أن الظاهرة تزول بزوال أسبابها، هل ننتظر نشأتها وتكوّنها حتى نبحث -فيما بعد- عن تلك الأسباب ونحن نعلمها سلفا؟

ثمّة أعمال فنية شعرية ومسرحية وروائية تناولت هذه الظاهرة، ولكنها ظلّت عند حدود وظيفة التطهير الأرسطية، التي من شانها تقديم بعض المسكنات لضحايا القتل؛ أولئك الذين قدّم الإرهابي رؤوسهم صكًّا للدخول من الباب الكبير إلى جنّته الموعودة. وهي أعمال تبدو في ظاهرها سلاحًا للمواجهة، لكنها في النهاية تموت بموت الحدث الذي أنتجها؛ أي أنها تخون الحجة الأنطولوجية (الوجودية) للفنّ، كرؤية للعالم، من أجل معركة آنية، فهل مصير الفن هنا يظلّ مرتبطًا بتلك العمليات الإرهابية، أم أننا صرنا نخون بدورنا الفنّ، وذلك عبر إخضاعه لمنطق التكتيكات الجيوسياسية، مثله مثل بيانات التنديد؟ هل دور ثقافتنا الآن التحوّل عن هدفها الأسمى، هندسة العقول وإعادة تربية الإنسان، إلى سلاح أدبي أو مسرحي يقوم على المباشراتية؟ ألا نرى الآن نسبة هائلة من تلك الآثار الفنية وقد تحوّلت إلى ما يشبه السباب والشتم وبعض الخطابات الرافضة لا غير؟ وهو تحوّل يكشف عن رعب وعجز كبيرين في إعادة تصوّر جديد للراهن السياسي والأمني. ألا يمكن القول في هذا الإطار –أيضًا- إن فشل الثقافة -على جميع صُعدها- هو عامل من عوامل نشأة ذلك النهر الإرهابي المتدفق بدماء الضحايا؟

مقابل ذلك، ثمّة مثقفون من طينة أخرى، ويا للعار، فقد صرنا نتناولهم ونصفهم بالمثقفين؛ وكأن الأمر بغاية البساطة. إنهم هؤلاء الكهنة الجدد، أو المهدويون الدجالون، أولئك الذين “تمعّشوا” من عطب الحداثة التي برهنت على عجزها النهائي في خلق فضاء كوني، يليق بالذات البشرية، فصاروا نقيضها الخرافي؛ وذلك عبر الارتداد إلى الخلف، ومحاولة استحداثهم للماضي الدموي القديم، واستبدال الراهن بتلك العودة إلى الأصول. إنّها حالة من الانغلاق التامّ في الدائرة الرافضة للحوار، ولكن ما يجعل العار مضاعفًا، أن تظل الكولونيالية -في وجهها الاستعماري الحداثي- راعية وممولة لهم، وذلك كي تلعب دور الضحية في إنها المستهدفة، وبالتالي تدخل الملعب كي تلعب شرعيًا بالتحكم في مصائر الأمم المتهمة بالإرهاب. وما من دور لهؤلاء -الآن- غير إنتاج ثقافة موغلة في الظلام، ومتأصلة في العنف، بأي شكل من الأشكال، وذلك لخلق مسرح من الفزع الدولي؛ كي يتسنى لمحرّكهم التدخل وممارسة إرهابه الاستعماري الخاص.

إن نشأة ثقافتهم تلك، بعيدة كل البعد عن الضوء؛ ذلك أن الضوء بات احتكارًا طبقيًا أيضًا، فهي تنشأ في المهمّش، خارج السرب الإعلامي والمسرحي والسينمائي، تزرع بذورها في قلوب أولئك الذين حرموا من الحياة: الفقراء والمهمَّشون والمعطَّلون عن العمل، والذين يعيشون بلا أمل؛ فتحرضهم على الانتقام، بخلق ضوء مضادّ، هو ضوء الخرافة كسلاح أخير للمقاومة، وكردّة فعل أخيرة قبل الموت الذي تَسبب فيه إرهاب التجويع والاستعمار والغزو، فيصيرون -بدورهم- إرهابيين لكن بضراوة أشدّ؛ ولهم ثقافتهم الخاصّة، تلك التي وجدت في طابعها الغرائبي وسيلتهم لتحقيق ما حرموا منه.

كيف نواجه الإرهاب ثقافيا؟ سؤال ينمّ عن مغالطة كبرى هو الآخر، لأن دور الثقافة يكمن في خلق تربة ثقافية، لها تأصّلها النابع من طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الملائمة لحياة كونية، من دون سديم ذلك الغزو الاستعماري. وهي تربة يعاد فيها رسم ملامح تشكل العقل الإنساني -من جديد- خارج دائرة الأوهام. دورها الحقيقي هو ذلك الأفق الأنطولوجي للذات البشرية، أي أنها تسبق الإرهاب زمنًيا وفكريًا، حتى إذا ما نشأت محاولة تحرّكه يكون مصيره الفشل التامّ، نظرًا لأنه لم يعد هناك من يغزو، ومن يشعر بالتهديد، فيمارس إرهابه المضاد.




المصدر