‘“بوابات أرض العدم” لسمر يزبك نموت أو ننّتصر’
24 أكتوبر، 2016
تهامة الجندي
“وجه منّهل يقطر دمًا، وعيناني تنّطبقان وتنّفتحان، اعتقدّتُ أنه يحّتضر، لأن كمية الدماء النازفة كانت كثيفة. سألته: “أنتَ بخير؟”، نسيت وجود الرجل المسلّح الملثّم، لولا صرخته المرعبة: “فوتي وليك”. وجّه مسدسه إلى وجهي. سمعت صوت قلبي يسقط مثل قذيفة. نظرت إليه بثبات وهدوء، وقلت له: “عفوًا بعتذر”، ثم أغلقت الباب، وجلست على السرير. انحصر تفكيري فقط في أن اللحظة القادمة، هي اللحظة التي ستتهاوى فيها جثة منهل، ويُفتح الباب، ويُطلق على رأسي الرصاص، أو أغيب في عتمة الخطف” (ص128و129).
المشهد السابق، ليس من صنع الخيال، هو مقطع من تجربة حقيقية عاشتها الروائية السورية سمر يزبك، ودوّنتها في كتابها “بوابات أرض العدم”، حيث كانت شاهدة على اقتحام مجموعة مسلّحة مقرّ المكتب الإعلامي في “سراقب”، واختطاف الصحافي والمصوّر البولندي مارتن سودر. والكتاب صدر عن “دار الآداب” في بيروت عام 2015، وتُرّجم إلى عدد من اللغات الأجنبية، وقد ترجمته إلى الفرنسية رانيا سمارة، وهي الطبعة التي رُشّحت -في الآونة الأخيرة- لنيل جائزة “ميديسي” للرواية، هذا العام.
ربما لا يكون في صالح الكتاب، أن تجري معاينته بوصفه رواية، فهذا سوف يحيله إلى فضاء المتخيّل السرّدي، ومشرحة النقد الأدبي. بينما تنبع أهمية “بوابات أرض العدم” من كونها شهادة حية، لكاتبة وناشطة سّلمية، تأتي من قلب أكثر المعارك دموية في العصر الحديث. وفي لحظة تاريخية استثنائية، تجري فيها محاولات حثيثة لخطف الثورة السورية، وتفّريغها من حاضنتها الشعبية.
سمر يزبك نفسها، التي لجأت إلى فرنسا منذ بداية الثورة السورية، لا تدعي أن كتابها يدخل في سياق الأدب الروائي، بل في إطار الشهادة الحية. وهو الجزء الثاني بعد “تقاطع نيران”، وبحسب ما هو وارد في “بوابات أرض العدم” فقد دخلت الكاتبة الأراضي المحرَّرة لثلاث مرات خلال عامي 2012 و2013. دخلت متسلّلة عبر الحدود مع تركيا، ومتنكرة بحجابها وجلبابها ونظارتها السوداء، ولم يكن يخطر في بالها -وهي تعبر الحدود للمرة الأولى- تسجيل شهادتها على المحّرقة المسّتمرة؛ بل كانت تنوي انشاء منظمة مدنية لتمكين النساء اقتصاديًا ومعرفيًا، وتدريس الأطفال في الشمال السوري، ومن أجل التشاور مع النسّوة حول المشروع، كانت تتنقل بحماية مقاتلين من “الجيش الحر”، ما بين “سراقب” و”كفرنبل” ومعرة النعمان” وبعض القرى، وهو ما سيحدد النطاق الجغرافي والحيوي للكارثة الإنسانية، التي عايشتها، وقررت تسجيلها فيما بعد.
تفتح سمر بواباتها وتغلقها على معابر التّيه، تصف بؤس النازحين السوريين، وجوههم الذاهلة، أوصالهم المبتورة، خيمهم الفقيرة في المناطق الحدودية “الريحانية” وأطمه”، تتوقف بإسهاب عند الأطفال، وتبدأ بديانا التي لم تتجاوز الرابعة من عمرها: “التي استقرّت رصاصة في نخاعها الشوكي، سببت لها شللًا دائمًا. كانت تستلقي باستسلام مثل أرنب أبيض مذعور |….| بِمَ كان يفكر القنّاص؟ حين صوّب رصاصته إلى ظهر طفلة، تعبر الشارع لشراء حلوى للإفطار” (ص7).
في زيارة سمر الأولى (آب 2012)، كان أكثر ما يعيق عملها، القصف المتواصل لطائرات النظام، مرة بالبراميل المتفجّرة، وأخرى بالقنابل العنّقودية. قصف ممنّهج لتهديم البنى التحتية، والهيئات المدنية التي يحاول ناشطو الثورة إقامتها في المناطق المحرّرة. بينما في زيارتها الثانية (شباط 2013) قد راعها انتشار الجهاديين الأجانب، وسوف يقول لها رفيقها، الصحفي اللبناني فداء عيتاني: “المرحلة القادمة ستكون أصعب، لأن نفوذ هذه المجموعات سيزيد، ويظهر بشكله الأقوى والأعنف، وسنرى فيديوهات تُظهر هؤلاء يجلدون الناس، ويقطعون رؤوسهم” (ص35).
أما في الزيارة الثالثة (تموز 2013) فقد لاحظت الكاتبة سطّوة الكتائب الإسلامية، وتدخلهم المباشر في حياة الأهالي، وسوف يهزّها، ويغضبها تصريح أبو أحمد، أمير حركة “أحرار الشام” وهي تحاوره، أن لا بقاء للعلويين في سوريا. وهو ذات التصريح الذي سيردّده أمامها في “البارة” أمير “جبهة النصرة” أبو حسن، وبقية القادة الإسلاميين الذين التقتهم. وجميعهم بدأوا نشاطهم عام 2012، بعد أن أُطلق سراحهم من سجون النظام، ليدخلها ناشطو الثورة السلّميين.
على الرغم من المعوّقات ومسوّغات الذعر، التي كانت تعترض الكاتبة، وكل ناشطيّ الثورة، فقد كانت سمر تنتقل ما بين البيوت والنوى المدنية وخطوط النار، تسجّل شهادات المدنيين، واحتياجات النساء، تحاور المقاتلين والقادة من “الجيش الحر” و”الفصائل الإسلامية”، تصف الأمكنة، وأنماط العيش، وأنواع الأسلحة المستخدمة، وحجم الدمار، تصف مشاعرها وانطباعاتها، وتستخدم السرد المتقطع، السريع، لصوغ كل ما استطاعت جمعه من تفاصيل، مستعينة بخبرتها الإعلامية وحساسيتها الأدبية.
وفي سردها الدافق يتشكل الفضاء التراجيدي، وتتموضع بؤر الصراع على وقع القذائف وهدير الموت: ثمة مدنيون عزّل، ومقاتلون بلا ذخيرة كافية، يتوقون إلى الحرية، ويحاولون تشكيل ملامح دولة مدنية في مناطقهم المحرّرة، لكنهم يواجهون بطش النظام، وبطش الجماعات التكفيرية، ويواجهون –أيضًا- رغبة اللاعبين الخارجيين في إطالة أمد الصراع، وبين حدود البؤر الثلاث تنفتح ملفات الجريمة المتسلّسلة: المجازر الجماعية، خطف الناشطين وقتلهم، التعذيب في السجون، سياسة التهجير القسّري، والاتجار بالنازحين.
تصف سمر النساء في تلك المنطقة المحرّرة، التي تعتقل سماءها طائرات النظام، تبرز جمالهنّ، زيهنّ، مستوى تعليمهنّ، بيوتهن النظيفة، وتفانيهنّ في إكرام الضيف، رغم القصف وضيق الحال، ومن خلال حواراتها معهنّ، يتضح موقفهنّ الرافض لسلوك الجماعات المتطرّفة والجهاديين الأجانب، فهن يردّن لأطفالهن، أن يتعلموا ويكبروا بعيدًا عن كل الممارسات الوحشية التي تحيط بهم.
معها نذهب إلى تظاهرة في “بنش”، حيث تقف وحيدة وسط الرجال. نتعرف إلى الفنان الغرافيتي في “سراقب” الذي يدفن الشهداء، ويلوّن الجدران، ويقول: “لن أترك هذا المكان”. نتعرف إلى بطل البلدة محمد حافّ، الذي عُذّب ثم أُحرق حيًا.
تصحبنا سمر في رحلة مع “باص الكرامة” الذي يجول ما بين ثلاث مناطق، ويقدم خدماته التعليمية والتثقيفية للأطفال النازحين. نذهب معها إلى المركز الإعلامي في “كفرنّبل”، ونتعرف إلى الناشطة رزان، وإلى فريق الإذاعة المحلية التي يجري الإعداد لإطلاقها. ومعها ندخل المدافن الرومانية البديعة، التي أضحت مأوى للنازحين.
ندخل مقر كتيبة “لواء أحرار العشائر”، حيث لا يتوفر الإنترنت ولا الهواتف الثابتة، وخطوط الجوال مقطوعة، وتحملنا التفاصيل، لنطلّ على أوجه التعاضد والتكافل ما بين مقاتلي “الجيش الحر” للتغلب على نقص الإمدادات، الذي يعانون منه باستمرار، ويقول أحمد: “أعرف أن الثورة مخّترقة، وأن كل ما يحيط بها ضدها، مثل أرملة فقيرة يتيمة ومهملة، أعرف أنهم يحركونني مثل حجر الشطرنج، لكني لن أتوقف عن قتال بشار الأسد”.
تصّفعنا أوراق سمر، وتخنقنا، تجعلنا نشعر باليأس وبعقدة الذنب، وتجّبرنا على التساؤل أحيانًا عن جدوى هذه المعركة الطاحنة، التي أخذت تنحدر باتجاه العصبيات الدينية والطائفية والإثنية، والتي يشارك فيها المقاتلون من جنسيات مختلفة، لكن الإجابة تأتي جلية على ألسنة الشهود، أصحاب القضية أنفسهم: هذه ثورة مضطهدين ضد نظام طاغية، نموت أو ننتصر.
22/10/2016
الكتاب: “بوابات أرض العدم”، المؤلف: سمر يزبك، الناشر: دار الآداب/ بيروت، 2015، قطع متوسط، 272ص.
[sociallocker] [/sociallocker]