صورة الأب في سورية ما بعد الثورة
24 أكتوبر، 2016
نور مارتيني
يصل طفلي الذي بدأ يصبح يافعًا في المنفى، على غفلة من والده الذي تركه ابنًا لثماني سنوات، قبل أن يتبين ملامح هويته الذكورية، إلى البيت مكتئبًا، يروي لي حكايات رفاقه الذين كبروا -هم أيضًا- في أكناف نسوة أخريات، حملن هموم الحياة التي لم يكن يخطر لبالهن أن يتحملن أعباءها.
أسأله عن يومه، فيحدّثني عن صديقه، الذي استشهد والده قبل أعوام، تكاد تكون خلالها قد انمحت ملامحه من ذاكرته، لتحلّ محله ملامح الجد الذي توفي، تاركًا وراءه حفنة من الأيتام، في منفى قاس لا يرحم!
“عامر” صديق ولدي، وهو ابن ذلك الشهيد من زواج ثانٍ، حدّثني يومًا ما عن إخوته الذين كانوا يطمئنون عليهم، في بداية وصولهم إلى تركيا مع والدتهم وأهلها، إلا أنهم “ملّوا” كما أخبرني يومها، وفقدوا التواصل معهم منذ سنتين.
ليس “عامر” اليتيم الوحيد في الصف، فولدي يجهد نفسه في قراءة عذابات أصدقائه الذين غاب آباؤهم عن حياتهم، بعد أن تحوّل والده الذي كان ملازمًا له إلى صورة عبر “سكايب”، لا يمكن له من خلالها أن يتبين كم فقد والده من وزنه بعد أن تركنا، أو أن يدرك الأخير أنه لم يعد ذلك الطفل الصغير الذي يبكي؛ ليحصل على قطعة الحلوى، فهو اليوم يزداد طولاً ووعيًا، ويفك عن نفسه ببطء شرنقة الخوف التي كنا قد نسجناها حوله؛ ليرسم ملامح شخصيته المستقبلية.
لقد أصبح الحديث عن العائلة والأبوين من التابوهات في المدارس؛ لأنه لا يقل خطورة عن التابوهات الثلاثة التقليدية: “الدين” و”الجنس” والسياسة”، بسبب شجونه الكثيرة.
فثمّة أطفال، استشهد آباؤهم قبل أن تتبلور في مخيلاتهم ملامح الأب، تصارع أمهاتهم حياة الغربة والفاقة، في بلد لا سند فيه ولا معين، يكبر هؤلاء.. ويبتلع غول اليتم مفاهيم المنطق والحق والصواب؛ ليبحثوا عن طريقة يستردّون بها ما سلبهم إياه واقع الحال، يتحوّلون إلى مردة حقيقيين، داخلهم طاقة جبارة، ويبقى هنا دور الأم التي تطحنها رحى الحياة لتعيل هذه العائلة، فتجد نفسها أمام مسؤولية جديدة، وهي توجيه طاقات أبنائها، وشعورهم بالعجز واليتم، لتحويله إلى طاقة إيجابية، تكسبهم القدرة على التميز في أيّ من الميادين التي يبرعون فيها؛ ليحصلوا على الثقة بالنفس، الكفيلة بإخراجهم من دائرة الشعور باليتم والعجز.
أما الآخرون، ممن تفقد أمهاتهم لغة التواصل معهم، فيتجهون إلى استثمار طاقاتهم سلبيًا، بغية إثبات شخصياتهم، عن طريق الشغب، والإيذاء المتعمّد للآخرين، بغية إحراج الأم، التي يدركون أن مشاعرها هي موضوع ابتزاز بالنسبة لهم؛ هذه الأم غالبًا ما تضيق بها السبل؛ فتقبل بالزواج حتى ولو كانت الأوضاع بالغة السوء، من منطلق تعويض الأبناء عن غياب الأب، غير أن النتيجة غالبًا ما تكون زواجًا فاشلًا مجددًا، مع المزيد من الخسائر للأطفال على الصعيد النفسي، وأحيانًا للأم، خاصة في ظل غياب الإطار القانوني الذي يحميها ويعيد لها حقوقها، وغالبًا ما تزداد عدوانية الأبناء تجاه أمهاتهم، ويتعمّدون تشويه صورتها اجتماعيًا تشويهًا أكبر.
في المدارس التي أنشئت على عجالة هنا، تغيب عن هؤلاء الأطفال مفاهيم الحقوق والواجبات، لأنهم لا يدركون هويتهم الحقيقية في هذه البلاد، فلا هم وافدون موقّتون، كي يتمكنوا من المحافظة على خصوصيتهم ضمن المجتمع، دون أن يغرّدوا خارج السرب، ولا هم دائمو الإقامة؛ ليباشروا رحلة الاندماج والانخراط في المجتمع، ولهذا تغيب عنهم مفاهيم المواطنة؛ لأن إحساس الانتماء إلى آبائهم، قد يغيب عنهم في كثير من الأحيان.
ففي المدينة الحدودية، حيث أقيم، يندر أن تصادف أسرة سورية تعيش حياة أسرية صحيحة، وتمارس مفردات حياتها ممارسة طبيعية، من أبسط القضايا في الاجتماع على مائدة واحدة، حيث أنه في معظم البيوت هنا، تعيش أكثر من أسرة في بيت واحد، والضحية يكون الأطفال الذين يفقدون مفهوم الانتماء إلى بيوتهم وأسرهم، فالبيت تحوّل -ببساطة- إلى مهجع يقضي فيه الطفل سواد الليل، دون أن يحصل فيه على القسط الكافي من الحنان والاستقرار اللذين يعززان الشعور بالانتماء، في هذه البيوت تجد أطفالًا يتامى، يتقاسمون السكن مع أطفال يعيشون مع آبائهم، ما يزيد من احتقانهم تجاه مجتمعهم؛ وحتى تجاه أهلهم، آخرون آباؤهم غدوا في حياتهم مجرّد صورة يرسمون تفاصيلها في مخيلاتهم؛ فهم إما موجودون على الجبهات في الداخل السوري، وقد نقلوا أسرهم للعيش في المدن الحدودية التركية؛ لأنها أكثر أمانًا، خاصة وأن معظمهم ينتمي إلى الفصائل المسلحة الموجودة هناك، أو أنهم (الآباء) موجودون في دول أوروبا، وقد غابوا عن أطفالهم سنوات، قد تصل إلى الثلاث، كبر خلالها هذا الطفل وبدأت ملامح شخصيته تتبلور، وقد شوّهت في أثنائها صورة الأب، وبدت غائمة تمامًا.
أما الحالة الأسوأ على الإطلاق، فهم الأطفال الآباء، حيث أنك حيث مشيت في هذه المدن، ستصادف أطفالًا يعملون لإعانة، وأحيانًا إعالة أسرهم، في ظل مرض الأب أو عجزه أو وفاته أحيانًا، بعضهم لا يتجاوز العاشرة من عمره، فالأتراك يفضلون تشغيل الأطفال؛ لأنهم يحمّلونهم أعباء ثقيلة، بمبالغ زهيدة جدًا، لا تتجاوز 100 دولار أميركي في الشهر، في أغلب الأحيان.
كل هذه العوامل، بدأت تخلق نوعًا من الشرخ بين الأطفال والآباء؛ بسبب صعوبة التواصل، أو غيابه في بعض الأحيان، وباتت ملامح شخصياتهم تتشكّل، دون أن يكون للأب دور فيها؛ ما سيعزّز الشرخ الاجتماعي مستقبليًا، ويؤدي إلى نبذ الأب من العائلة في بعض الأحيان، فالقضية كلها باتت مفاتيحها بيد الأم، وقرار الأسرة بات بيدها، وهو ما يمكن أن نتبيّنه من ارتفاع نسب حالات الطلاق بين السوريات الواصلات إلى أوروبا، ذلك أن العائق الأهم الذي تواجهه المرأة لدى اتخاذ قرار من هذا النوع، هو رفض الأبناء للانفصال عن الأب.
[sociallocker] [/sociallocker]