في الديمقراطية السورية والإسلام


مضر الدبس

يرى الحنبليون أن الدين ينقسم إلى قسمين: الأول متعالٍ يقف خلف الزمن والمشروطيات الأرضية التاريخية، والثاني مشروط بالأوضاع والمتغيرات التاريخية. ويتفقون على القول بأن القرآن لا يتحدث تفصيلًا عن كل شيء يخص الحياة الدنيوية في المجتمع، وإنما يترك ذلك لأولي الأمور؛ وبالتالي يبقى هناك مجال لأن تتدخل السلطة السياسية في الموضوع: أي موضوع التشريع وتنظيم المجتمع وحل مشكلاته. هذا يعني أن “الدين لا يشمل كل شيء”، وهذه الفكرة في جوهرها تحمل طبيعة علمانية.

ولكن يبدو أن المشكلة تتوالد، وتَصنعُ عُقدها، انطلاقًا من سلوك الفقهاء الذين احتلوا المجال الذي تركه القرآن حرًا؛ لكي يتدبر الحاكم أمره؛ هم بذلك ينافسون السلطة السياسية، على عكس ما أوحى به القرآن. تكوّن في هذا السياق التاريخي علمٌ جديد ومتجدد، هو “علم الفقه”، وهو الذي أخذ على عاتقه إطلاق الفتاوى في مجالات الحياة جميعها، بالشكل الذي يجتاح الحياة السياسية كما يجتاح الحياة الاجتماعية، وبالشكل الذي يسهم في طمس الحدود بين المجالين العام والخاص، ويجعل من التمييز بينهما أمرًا في صعبًا جدًا.

هكذا يصبح المفكر والسياسي، الطامحان إلى التغيير الإيجابي، مضطرين للتأصيل النظري لحدود كل من المجالين، بدلًا من التأصيل لتكاملهما مجالين متمايزين، يتناغم التمثيل بين مستوييهما. وهذه السديمية بين المجالين: العام والخاص، هي ما تحرص الأنظمة التسلطية على استمرارها. يقودنا السير -بالاستناد إلى هذا المنهج الذي ينظر إلى دور علم الفقه في تاريخ السياسة في المجتمعات الإسلامية- إلى الاعتقاد بصحة الاستنتاج القائل بعلمانية الدولة الإسلامية عبر التاريخ، فالدولة الدينية في الإسلام، لم تكن موجودة -قطّ- إلا بوصفها وهمًا يأخذ شكل اليقين.

كانت الدولة الإسلامية لا دينية سواء أيام الأمويين أو العباسيين، ومع ذلك، كان يتولد الوهم بأن الله هو الذي يحكم من خلال الخليفة. الحقيقة أن الإنسان في شؤون دنياه أعلم، وهذه الشؤون الدنيوية هي التي تكون موضع مرونة وتكون موضوع نقدٍ مستمر، بعيدٍ عن نهجية التقديس الإيمانية. وعند هذا الحد من النقاش، يعترضنا السؤال المهم: هل الدولة شأن دنيوي؟ في الحقيقة، لكي تكون كذلك، وجب أن ننتزع منها ما لا تحتمل من محاولات تنسيبها إلى الله، أو من محاولات تأليهها (والأمران سيان). فالوطنية والمواطنة والوطن والدول شؤونٌ دنيوية، ترتيبها بشري المصدر.

قد يبدو هذا التحليل ساذجًا، قياسًا على الواقع المعقد والمتشعب، ولكن هذه المقاربة -بكل ما تحمل من التبسيط وافتقار إلى الدقة التفصيلية- ربما تكون الأنجع في الولوج إلى الموضوع؛ حيث أننا -في مرحلة من المراحل- نكون قد دخلنا في تشخيص الأسباب المعقدة والبعيدة، اعتقادًا أننا نتلمس الحلول، فيما تكون الحلول أكثر وضوحًا مما نعتقد، وأكثر قربًا مما قد نذهب إليه. ولا يزيد تعقيد المسألة في هذا الموضع، والدخول في تفاصيلها الفقهية، إلا الطينَ بلة؛ فيبعدنا عن الحقيقة البسيطة أكثر مما يقربنا منها.

وربما من أهم المشكلات النظرية التي ستواجه التفكير، في سورية خاصة، هي تلك العقبة المنطقية التي ستواجه مساعي إنشاء نظام ديمقراطي، وتكمن في المفارقة التالية: إن الديمقراطية تتطلب تعزيز مكان سلطة قوية، تترجم طلبات المواطنين إلى واقع ملموس، وفي الوقت نفسه، فإن السوريين لا يثقون اليوم بتفويض سلطة إلى الحد الذي تصبح معه قادرة على التغيير (حدثت هذه المفارقة -إلى حدٍ ما- في تجربة نظام الرئيس المنتخب محمد مرسي في مصر)، لذلك؛ علينا ضبط عملية المبالغة والتضخيم في الديمقراطية، بوصفها وصفة سحرية لكل أمراضنا، وعلينا إيقاف التنظير الديمقراطي عند حد معين؛ من أجل إفساح المجال للتطور العملي الطبيعي. وبالعموم، لكي تنشأ الديمقراطية في نظام حكم ما -بحسب تشارلز تيللي- يجب أن تحدث تغيرات في نواح ثلاث: شبكات الثقة، وعدم المساواة الطبقية، ومراكز السلطة ذات الحكم الذاتي، مثل: شبكات الثقة الطائفية والاقتصادية والاثنية، والمجموعات التي يمكن تبقى من مخلفات النظام الحالي، وعدم المساواة بين السوريين بعد الثورة، وتمييز بعضهم لسبب أو لآخر، والمجموعات المسلحة التي تحتفظ بسلاحها بعد تكوين جيش وطني؛ ما يتيح لها أن تكون مراكز لحكم ذاتي؛ هذه الأمثلة -جميعها- تهدد التحول نحو الديمقراطية، والأجدر بنا تجاوز سؤال الإسلام والعلمانية إلى سؤال النظام الاشتقاقي، الأنسب والأمثل لبناء سورية الموحدة الآمنة التي تمنح مواطنيها السعادة والرفاه.




المصدر