الأسطورة التي تشبهنا


عادل رشيد

لكل مكان أسطورته المثالية المنسوجة عن غالبية الملاحم التي جرت فيه.

كانت تشبه معظمنا، صارت تشبهنا كلنا، سواء كانت أسطورة أو واقعًا، أو واقعًا أسطوريًا، أو أسطورة واقعية ربما!! ولعلها شيء أكثر من هذا وذاك؛ إنما المؤكّد أنها تجسّد النواة الجوهرية للمعرفة التي يمكن أن تتشكل لدينا عن أنفسنا، إنها تعبّر عنّا وتفسّرنا أكثر من أي شيء آخر، لقد عرّت خصالنا ونشرتها للشمس.

إن ما ترويه الأسطورة ليس القصة الواقعية لما جرى، ولا القصة المتخيلة البحتة، إنها تروي قصة خيالية قابلة للتصديق، فيها قدر كبير جدًا من الحقيقة، قصة قديمة تبقى راهنة، إنها تعنينا في أعمق نقاط ذواتنا، وتنكؤنا في أبعد زوايا أرواحنا.

لعل السؤال الأول الذي يطرح نفسه بقوة في سياق أسطورة سوريتنا إنما يتصل بحدودها، من أين بدأت؟ كيف؟ وإلى أين ستنتهي؟!

(مقاربة أولى) “أوديب ملكًا”.

“سوفوكل”ـ والذي كان يسمى “سوفوكل الورع”ـ كان يشغل باله تبرير الخطيئة الإلهية المنزلة من السماء أقل مما شغلته مسألة إبراز انعدام اليقين في مصير إنسان يواجه سرًا لا يدركه! في نظر “سوفوكل”، بدأت أسطورة “أوديب” من الإنذار الذي نطقت به آلهة “ديلف”، حيث أتى صوت إلهي يخبر الأب عن طريق الوحي أنه سيهلك بيد أحد أبنائه. إذًا لا خطيئة أوليّة هنا، لا من جانب الابن “أوديب”، ولا من جانب الأب “لايوس”، إنها الكلمة الإلهية التي نزلت تامّة ولا مردّ لها، والمعصومة عن الخطأ في أي حال.

(مقاربة ثانية) جامع “الرفاعي” في دمشق.

الشيخ -خطيب جامع الرفاعي في كفرسوسة، وبعد أن فتح عناصر الأمن النار على المتظاهرين السلميين الخارجين من بهو الجامع- هرع نحو شاب أصيب بطلق ناري في عنقه، وأخذ يحثّه أكثر من مرة على النطق بالشهادتين؛ عندها، وبما تبقى له من قوة، شدّ المصابُ الشيخَ نحوه وهمس له قائلًا: “أنا مسيحي يا شيخ”، حينها لم يشغل بال الشيخ السنّي الرصاص الحي أكثر من انشغاله بإنقاذ الشاب المسيحي من الموت أولًا، ومن عناصر الأمن ثانيًا، ولم يتصارع في عقله أو قلبه اسما يسوع ومحمد. إذن، لا خطيئة أولية هنا أيضًا، وأيضًا، إن الشعب السوري صانع أسطورته وبطلها وحامل مأساتها، لا يشغل باله تبرير الخطيئة أو تفسير الحكمة الإلهية المنوطتان بالله، بقدر محاولته استجلاء ومعرفة وإدراك والتعامل مع هذا الحدث الدامي المستمر.

كتب “كلود ليفي شتراوس” في الفصل الأخير من كتابه “الإنسان العاري” يقول: “لا بدّ لنا من التسليم بأن الأسطورة لا تقدم لنا شيئًا يعرّفنا بنظام الكون، ولا يمكن لها أن تُنجد الأيديولوجيات المنهكة؛ لكنها تعرّفنا كثيرًا عن المجتمعات التي تنشأ منها تلك الأساطير، تعرفنا إلى مؤسساتها التي كان نظامها غير مفهوم في البداية، وتتيح لنا استنتاج بعض أنماط عمل الفكر الإنساني –خصوصًا- الأنماط الثابتة منها والمنتشرة بصورة عامة، وعلى مساحات شاسعة.”

تقول “ماري ديلكور” الباحثة في علم “الأنثروبولوجيا”: “إن الأسطورة لا يمكن فهمها قبل تفكيكها قطعة قطعة، إذ يمكن أن يكون لكل حادثة فيها دلالتها المستقلة تمامًا”. إذن، أين الخطيئة الأولى أو الأصيلة في الأسطورة السورية؟ ما دور المأساة فيها؟!

لقد أعطت المأساة السورية لأسطورتها صوتها، كما وأعطتها الأسطورة السورية قوتها وبريقها.

يقول “نيتشه” في “ولادة المأساة”: ” بفضل المأساة تصل الأسطورة إلى محتواها الأعمق، وإلى شكلها الأكثر تعبيرًا، إنها تنتصب مرّة أخيرة بطلًا جريحًا، قوّته الطافحة تقترن بهدوء المحتضر وحكمته، تلتمع في عينيه بشعلة أخيرة ومقتدرة”.

كيف أصبحت مأساة “سوفوكل” هي المأساة المثلى في نظر حضارة بأسرها؟، ماذا ستصنع المأساة السورية في حضارة هذا القرن وقرون مقبلة؟ أيمكن للمأساة أن تمنح الأسطورة نفسها دون أن تضيف إليها أي شيء غير مستمدّ منها؟

هنا، ربما علينا البحث في عظمة هذه الأسطورة السورية انطلاقًا من أهم ميزاتها، المتجليّة في التناغم الغريب بين الصوت والصمت فيها، بين ما يقال بوضوح، وما لا يقال البتّة، بين الإشارات القويّة الآتية من العمق، وبين التعويم والسطحية والابتذال، إنه لغزها الذي يمسّنا في كل مكان، ويُفلت منّا من كل مكان، كل شيء فيه قريب، وكل شيء فيه بعيد، كل شيء فيه واضح ومباشر وكل شيء فيه غامض ومبهم، ويشترك فيه الواضح والمبهم بطرح الأسئلة ذاتها.

إن للمأساة السورية شفافية ملقاة على كثافة أسطورتها، إنها كشف حجاب وحجاب بان معًا. إن الاختلاف بين الأسطورة السورية ومأساتها يتلاشى، ويزداد حدّة في وقت واحد.

كل شيء وأي شيء قابل للحدوث في الأسطورة، وتتابع الأحداث فيها لا يخضع لأيّ قاعدة منطقيّة أو سياق مستمر. بحسب رأي لـ “جان ورسيه”: إن أقطاب البناء المثالي للأسطورة هم، البطل المتقلّب، ودور النساء الجوهري الفاعل فيها، والموت.

بهذه المعاني تنطبق على المأساة السورية -كافة- أركان الأسطورة، يضاف إليها البعد الزمني من ماضيها إلى حاضرها المستمر؛ لتصبح -بامتياز- الأسطورة التي تشبهنا كلنا.




المصدر