“الإرهاب” كناظم في إدارة الصراع السوري


ساشا العلو

راقب النظام السوري -بحذر- سياق الربيع العربي الذي أطاح باثنين من أنظمة الحكم، قبل أن يبلغ في آذار/ مارس 2011 حدود المنظومة الأمنية للأسد، والتي سعت جاهدة عبر -مداخل عدة وأدوات- لحرف مسار الحراك الشعبي، ونقله إلى مستوى “الأزمة”، ثم الدفع عبر حوامل عدة لتصديرها كمهدد أمني، يتخذ الصراع خلاله مستوىً مختلفًا، يتجاوز عبره الحدود المحلية، وفقًا لأبعاد إقليمية دولية.

وضمن هذا السياق، ونتيجة لخبرة أمنية طويلة في ملفات المنطقة (العراق 2005) وإدارة الصراعات الأهلية (لبنان 1975)؛ أدرك نظام الأسد أهمية “الإرهاب” كمجال ناظم؛ لإعادة ضبط العلاقة بين ثنائية الصراع على مختلف المستويات، وفقًا للمحددات الأمنية الدولية والإقليمية، مستغلًا سيولة مفهوم الإرهاب، وغياب الإجماع الموحد على معايير واضحة لقياسه وتوصيفه بمستوياته المختلفة، ليعمل على الدفع بهذا المسار عبر أدوات عدة ومراحل مختلفة، متكئًا في ذلك على وضع الفوضى الذي خلقه النظام، وأتاح عبره هوامش واسعة؛ لتحرك الجماعات العابرة للحدود (سواء الأصولية أو القومية)، هذه الجماعات التي تأخرت المعارضة السورية جدًا في إدراك خطرها وطبيعة مشروعاتها الذاتية، ليبدأ “الإرهاب” ضمن هذا السياق ووفقًا لحركية مدروسة بالانفصال تدريجيًا، من صفة لصيقة بسلوك النظام تجاه الحراك السوري إلى غطاء “يشرعن” من خلاله قمعه، ثم ينتقل إلى متلازمة في التعاطي الدولي الإقليمي مع الملف السوري، استدعت تغيير الأدوات وإعادة رسم التحالفات، بحسب إيقاع الإرهاب، الذي تحول -في مرحلة متقدمة- إلى مدخل خطِر تلج عبره القوى الدولية والإقليمية المختلفة إلى الملف السوري؛ لإعادة فرض التوازنات، وترجيح قوى على حساب أخرى.

وإذ حُددت أولوية الحل السياسي في مكافحة الإرهاب، وثُبتت وفقًا لخارطة الطريق التي تبناها مجلس الأمن في الـقرار 2254؛ إلا أن أثره واستثماره لن يتوقف عند هذا الحد، وإنما سيستمر الإرهاب كمدخل في تفاصيل الانتقال السياسي الذي سيحدد شكل سورية المستقبلي؛ ما سيضع المعارضة السورية في موقف صعب، يستوجب تغيير الأدوات ورسم استراتيجية واضحة في مواجهة “لعبة الإرهاب”، ضمن الأشكال والمستويات الجديدة التي قد يتجلى بها في المراحل المتقدمة من العملية الانتقالية؛ فضمن التعقيد الكبير في المشهد العسكري السوري؛ يتخذ شكل الإرهاب سيولة عالية، ومستويات متداخلة، تزيد من خطورته كمدخل في الالتفاف على تفاصيل العملية السياسية، فإضافة إلى إرهاب الدولة الذي يمارسه الأسد وحلفاؤه والمليشيات الأجنبية التابعة لهم؛ ستواجه المعارضة السورية مستويات جديدة من الإرهاب، ستشكل في مجملها خطرًا على تموضعها السياسي والعسكري في مختلف مراحل الانتقال السياسي، وتتوزع تلك المستويات على الشكل التالي:

الإرهاب الظاهر

وهو الإرهاب المجمع عليه محليًا وإقليميًا ودوليًا، والمتمثل بتنظيم الدولة “الإسلامية” سواء كقوة عسكرية على الأرض تشكل تهديدًا حقيقيًا لغالبية الجبهات العسكرية، أو كمدخل سياسي تلج منه بعض القوى الدولية والإقليمية؛ لإعادة خلط الأوراق، وفرض توازنات على الأرض على حساب قوى المعارضة السورية.

 الإرهاب المؤجل

وهو الإرهاب الذي ينتمي -فعليًا- إلى المستوى الأول (الإرهاب الظاهر)، سواء عبر الأيديولوجية أو الممارسات أو الانتماءات التنظيمية العابرة للحدود، إلا أن الوضع المحلي والدولي أرجأ مواجهته بالنسبة للمعارضة السورية، ليجعل منه مؤجلًا بفعل المتغيرات العسكرية والسياسية، ويتمثل هذا المستوى من الإرهاب بمجموعة من القوى وهي:

جبهة “فتح الشام”، أو جبهة النصرة سابقًا، والتي على الرغم من “فك ارتباطها” بتنظيم القاعدة، إلا أن حضورها لا يزال يمثل إشكالية حقيقية في الملف السوري، وعبئًا على الثورة، فعلى الرغم من مشاركة النصرة، وتنسيقها مع جزء من قوى المعارضة العسكرية، في بعض المعارك ضد النظام؛ إلا أن الطرفين يعيان جيدًا أن تقاسم العدو لا يعني وحدة الهدف، ولا يلغي المواجهة المؤجلة بينهما، بحكم مدخل العملية السياسية الذي جعل النصرة وتوابع القاعدة إرهابًا مصنفًا على المستوى الدولي، ما يجعل منها إرهابًا مؤجلًا ستواجهه المعارضة السورية، سواء كمستوى منفرد، أو ربما ضمن المستوى الأول، والذي قد تنتقل له النصرة أو أجزاء منها بفعل مدخل العملية السياسية المتمثل بأولوية مكافحة الإرهاب، وما يستتبع من آليات لن يكون آخرها وقف إطلاق النار، الذي استثناها وتنظيم الدولة، ما قد يدفع بمتغيرات تجعل احتمال التنسيق وإعادة إحياء أخوة المنهج خيارًا حاضرًا. ولعل الصراع الأخير بين جند الأقصى وأحرار الشام وما نتج عنه من انضمام جند الأقصى إلى النصرة، يشكل مثالًا للانزياحات المحتملة المدفوعة بانتماءات أيديولوجية.

“وحدات حماية الشعب”: وهي قوى تنتمي تنظيميًا لمشروع عابر للحدود الوطنية، ومصنف دوليًا على أنه إرهابي، والمتمثل بحزب العمال الكردستاني (PKK)، بوصف أن تلك الوحدات نسخته السورية عبر جناحها السياسي (PYD)، والمسلح (YPG)، والذي استغل الهوامش المتاحة -خلال الثورة السورية- لتحقيق مشروع ذاتي ضيق، سواء عبر التنسيق مع النظام وحلفائه، أو استثمار المناخ الدولي ومدخل مكافحة الإرهاب؛ لتأدية وظائف على الأرض، تؤمن له غطاء دوليًا يسهل تحركه تجاه تحقيق مشروعه؛ ما يجعل منه إرهابًا مؤجلًا، تبعًا للفيتو الدولي (الولايات المتحدة)، وإرهابًا ظاهرًا تبعًا للأولوية الوطنية، وإرهابًا صارخًا بالنسبة للمحددات الأمنية لبعض الدول الإقليمية (تركيا).

الإرهاب المحتمل

وهو الإرهاب المستتر بالمشروعات الذاتية الإقصائية لبعض القوى العسكرية على الأرض، والتي قد تتضارب وأي مشروع وطني جامع؛ وإذ يصعب توصيف هذا المستوى بدقة في الوضع الحالي؛ نتيجة عدم اتضاح ملامح وحدود أي مشروع وطني، إلا أنه سيطفو على السطح، ويبرز بروزًا أكبر، منتقلًا إلى المستوى الثاني أو الأول في حالتين:

الأولى، تثبيت حدود المشروع الوطني، ومواجهة الإشكاليات الأبرز ضمنه (دين الدولة، هوية الدولة، شكل السلطة).

الثانية، بداية حرب حقيقية على الإرهاب ضمن المستوى الأول والثاني (النصرة، وتنظيم الدولة)، حيث ستشهد هذه المرحلة انزياحات جماعية من المستوى المحتمل إلى هذين المستويين.

ستشكل تلك المستويات من الإرهاب -على اختلافاتها- تهديدًا حقيقيًا للمعارضة السورية على المستوى العسكري والسياسي، ضمن أي عملية انتقالية محتملة، إلا أن بعض هذه المستويات، وعلى الرغم من خطورته، فإنه قد يشكل مخرجًا وفرصة جديدة لتحسين التموضع، يتوقف نجاحها على أداء المعارضة السورية في تغيير الأدوات، والدفع تجاه تحويل المخاطر إلى فرص.

إن “الإرهاب” بمستوياته المختلفة، وسيولته العالية ضمن الصراع السوري، سيمثل مجالًا مهمًا خلال الأعوام المقبلة؛ لاستقطاب الباحثين والدارسين؛ لتفكيك هذه الظاهرة ودراسة آثارها (السياسية، الاجتماعية، الدينية، القومية، النفسية)؛ إلا أن أغلب نتائج تلك البحوث لابد وأن تتقاطع،  كون “الإرهاب” محصلة طبيعية للتدافع الدولي في إدارة الملف السوري، وفقًا لموازين القوى المختلفة وإعادة ترتيب النظام الأمني الإقليمي الذي صدَعه الربيع العربي، وتحديدًا الثورة السورية، حيث أن هذه النتيجة لا تنسحب على الثورة السورية فحسب، بقدر ما تمثله من “سياق تقليدي” في معالجة موجات التغيير السياسي ضمن المشرق العربي، سواء من جهة الأنظمة الديكتاتورية وإبرازها الإرهاب سلاحًا  في مواجهة متطلبات الإصلاح السياسي وموجات التغيير، أو كمدخل  وذريعة مهمة لمختلف القوى الدولية؛ للتدخل في إدارة الصراعات، وإعادة فرض التوازنات في المنطقة، وإنتاج نظام أمني إقليمي دولي يراعي هذه التوازنات؛ ما يساهم تراكميًا  مساهمة مباشرة وغير مباشرة في صناعة الإرهاب، وإتاحة بيئة خصبة لمختلف الجماعات الأصولية ومجالات أوسع لحركتها وتمددها.




المصدر