on
عسكرة العقل المسلم
أحمد الرمح
الصراع على الإسلام كان الحاضن الشرعي لثقافة الطائفية والتخندق والانشقاق؛ هذا الصراع بات حصان طروادة الذي جعل الخارج يدخل من خلاله أوطاننا، مستعمرًا لها وناهبًا لخيراتها؛ إذ جاء الاستعمار الغربي بعد أن ورثنا من استبداد عثماني قاسٍ؛ لم يبقِ فينا أيَّ روح للحياة أو نَفَسٍ للإبداع، وبما أننا كنا في مرحلة ضعف شديد، أوَّلنا نصوصًا قرآنية؛ واختلقنا نصوصًا نبوية تتحدث عن تدخل السماء؛ لإنقاذ أهل الأرض الفاشلين المنهزمين المختلفين، مكتفين بالأماني، دون عمل أو مقاومة أو أخذ بقانون السببية أو رأب للصدع الذي دخل منه المستعمر، وتناسينا القانون القرآني الذي يقول:
{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (النساء:123)
وحينما لم تستجب السماء لدعاء مجتمع نخره التخلف والانقسام والطائفية، بدأنا بالبحث عن مخرج؛ فخرجنا من الجبرية إلى القدرية، وبدأنا باستحضار نصوص القتال والجهاد، كحلّ لتلك الأزمة، والمقاومة مباركة ومطلوبة، ولكنها تحتاج -قبل ذلك- إلى ثقافة تجذرها، وتربية حقيقة للمجتمع، ووعي بالواقع.
لما خرج المستعمر؛ نتيجة المقاومة الوطنية، كان الأولى بنا أن نخرج من ثقافة العسكرة إلى ثقافة البناء والتنمية والإنتاج؛ وهذا ما فعلته مجتمعات حيَّة كالمجتمع الياباني والألماني وغيرها، إلا أننا أعطينا ثقافة العسكرة عمرًا إضافيًا ليس في محله.
بعد مرحلة الاستقلال عاش العقل الإسلامي صراعًا آخر مع التيارات والأحزاب الأخرى، من أبناء المجتمع، اتخذ من العسكرة وإلغاء الآخر وسيلًة لحلَّ الأزمة؛ وبما أننا نعدّ أنفسنا القادة الشرعيين للمجتمع بناءً على الموروث التاريخي؛ وبما أنَّ مَنْ قاد البلاد -بعد مرحلة الاستقلال- لم يكن إسلاميًا، بالمعنى الأيديولوجي، وفشل في إدارة الصراع في القضية الأم (القضية الفلسطينية)، فلا حلَّ معهم إلا بثقافة العسكرة والاقتتال؛ وحتى نشرعن تلك الثقافة، بدأنا بمعزوفة التكفير والتخوين.
ولما (فشل) الحل الإسلامي؛ لأسباب كثيرة، داخلية وخارجية، أمام تلك التيارات، وجدنا أن أسهل الطرق للانتصار عليها بالعسكرة والقتال وسفك الدماء، فسُفكت دماء في بلدان شتى من وطننا العربي! ودخلت البلاد في صراع دموي لا نزال ندفع ثمنه، واستعر خلاف نخر المجتمع وفتته وأضعف قواه، فدخلنا معارك متعددة مع القوميين والعلمانيين واليساريين! كان الخاسر الأكبر فيها الوطن والرابح الأكبر فيها تلك القوى المتربصة به شرًا.
أصبح الخطاب الإسلامي -نتيجة تلك الأزمة- لا يتحدث إلا عن قتال المخالفين، ويسوقُ المجتمعَ نحو العسكرة سوقًا، ولا صوت إسلاميًا يعلو فوق صوت العسكرة، واختُزلت سيرة رسول الله بغزواته وسراياه، وارتكبنا خطًأ استراتيجيًا في تربية المجتمع؛ حيث أصبحت خطب الجمعة حديثًا عن العسكرة! وأما شهر رمضان فتناسينا كل قيمه، ولم نعد نتذكر فيه إلا غزوة بدر وفتح مكة؟ إننا نتذكر أن رسول الله ﷺ حارب كفار قريش لما حاربوه؛ ولكننا ننسى أنه حاورهم أكثر مما حاربهم؟
الحقيقة أن حياة النبي لم تكن كلها قتالًا وحربًا، بدليل أن عدد غزواته التي وقع فيها قتال لم تتجاوز (12) غزوة، وأما سراياه التي بعثها فلم تتجاوز الـ 10 سرايا، ولو جمعناها كلها، وأضفنا لكل غزوة وسرية عشرين يومًا تحضيرًا لها؛ لكان مجموعها الزمني (480) يومًا، أي: لا تتجاوز السنة ونصف السنة من عمر رسالته، في حين أن رسالته استمرت ثلاثة وعشرين عامًا. فهل تساءلنا ماذا فعل رسولنا الكريم في اثنين وعشرين عامًا، ألم يكن يقضيها في التربية والتوعية والعلم والحكمة والتنظيم.
كان آخر إنتاج لمفهوم العسكرة السلفية الجهادية، التي تؤمن بثقافة القطيعة حتى مع المسلمين، ولا تقيم وزنًا لثقافة المشاركة، واتخذت من العسكرة حلًا وحيدًا لحلِّ الأزمة؛ فكفَّرت الجميع؛ حتى أعطت الخارج ذريعة التدخل واستعمار بلادنا من جديد، فضيّقت على المعتدلين، وساهم الإعلام الغربي في استغلال ظاهرة السلفية الجهادية لتضخيم مفهوم الإسلام فوبيا عالميًا؛ فأصبح الإسلام يوصم بالإرهاب.
إن مَنْ عَسْكَرَ العقلَ الإسلامي استحدث نصوصًا قَوَّلَها لرسول الله؛ لإلغاء الآخر فيزيولوجيًا، بعد أن فشل في إلغائه أيديولوجيًا، وغدت نصوص مثل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) (وجُعل رزقي تحت ظل رمحي) (وجئناكم بالذبح)، تُسيِّر العقل الإسلامي وتوجه سلوكه؛ على الرغم من مخالفتها الصريحة لنصوص قرآنية مثل قوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107)
{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} (الغاشية:21+22)
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} (الكهف: 28)
{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل:125)
{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (يونس:99)
طبعًا سيرد علينا دعاة العسكرة بأن هذه الآيات منسوخة بآية السيف، ولو صحّت دعوة النسخ هذه؛ يعني ذلك أن أكثر من (130) آية قرآنية تتحدث عن الدعوة والحكمة والإنسانية والتشاركية؛ لم يبق لها دور قرآني في حياتنا إلا التلاوة في المنابر المحاريب فحسب!
وهنا نتساءل
أما آن الأوان لكي يصمت صوت العسكرة ونتحدث بأسلوب إنساني عقلاني مع بعضنا ومع الآخر الشريك لنا في الوطن والإنسانية والإيمان، وندخل هدنة نجرب فيها الحوار والتفاهم، معتمدين المبدأ القرآني الذي حذر من العسكرة وآثارها المدمرة على الدعوة وسمعة الإسلام وتشويهه الذي يقول:
{كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} (النساء:77)
إن تجارب الرسل السابقين لم تكن عسكرية، باستثناء رسالتي داود وسليمان عليهما السلام؛ وأن الأنبياء بُعثوا بقوة الحجة لا حجة القوة؛ واستطاع الحق الأعزل في تجارب ثورية وإنسانية تاريخية هزيمة الباطل المسلح، وأن قوة الحق أطول عمرًا من حق القوة؛ وأن قريشًا لما أرادت جرَّ النبي إلى العسكرة في مكة جاءه التوجيه الإلهي:
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (العلق:19)
إن تجربة السلفية الجهادية في العسكرة كان وبالًا على الدين والمجتمع، الخاسر الأكبر فيها سمعة الإسلام، أما الشعوب، فلم تنل منها إلا التشريد والنزوح والتهجير؛ فهل من صوت عاقل يصرخ في وجوه دعاة العسكرة: كفاية.
المصدر