عون رئيسًا.. بجوع ما دون وطني للسلطة


حافظ قرقوط

من كان متابعًا للوضع اللبناني وتطوراته في السنوات السابقة، من المرجح أنه سيصل إلى نتيجة مفادها، أن جميع الأطراف أو الأقطاب السياسية ليست في أحسن حالاتها، وهي ما فتئت تبحث عن مسارب وممرات؛ لإعادة إنتاج ذاتها بطرق جديدة ومُبتكرة، تُعيد فترة السبعينيات بخلط الأوراق، ولا شك في أن القوة العسكرية لميليشيا حزب الله، التي يريد من خلالها أن يقتنص مواقف سياسية لصالحه عن طريق الابتزاز، كان لها الدور الأكبر في ما وصل إليه لبنان، حيث الفراغ الرئاسي منذ أيار/ مايو 2014، مع حكومة تصريف أعمال، ومجلس نيابي مُعطل.

جاء إعلان سعد الحريري رئيس كتلة المستقبل، عن ترشيحه للعماد ميشيل عون لرئاسة الجمهورية، بمنزلة انفراج لكل الرئاسات، ويطرح -في الوقت نفسه- التساؤلات عن شكل النظام السياسي اللبناني، وعن التركيبة الطائفية التي تتستر بالديمقراطية، لأجل مغانم ما دون وطنية، وهذا ينطبق على الجميع، بلا استثناء، وهي تركيبة كانت نتاج اتفاق الطائف عام 1989، (نسبة لمدينة الطائف بالمملكة العربية السعودية)، مُنهيًا حربًا أهلية استثمرها النظام السوري؛ ليغتصب قرار اللبنانيين في وطنهم، وليستثمر -بعد الطائف- تلك الاتفاقية أيضًا، ويدخل مساومًا عبر مخابراته على رسم لعبة المناصب بلبنان، إن كانت رئاسة الجمهورية، التي يتبعها تكليف برئاسة الحكومة، وأيضًا المرور برئاسة مجلس النواب، وقيادة الجيش والأمن العام، وما إلى ذلك من مناصب حساسة مهما كان حجمها.

بعد قرار إسرائيل الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000، عمدت ميليشيا حزب الله، بالتنسيق مع النظام السوري وجيشه المنتشر على الأرض اللبنانية، عدا الجنوب، إلى استثمار هذا الانسحاب، وعدّه معادلة انتصار لهما، واللعب على وتر (المقاومة والصمود)، وساقت القوى اللبنانية معها بهذه اللعبة – الخديعة، وذلك مع بدء الحديث عن ضرورة إعادة انتشار الجيش السوري الموجود في لبنان، والمحافظة على سلاح المقاومة، دون الخوض في سحب هذا السلاح نهائيًا من يد أي شخص خارج نطاق الدولة، كما نص اتفاق الطائف، ليأتي اغتيال الرئيس الحريري عام 2005، فيفجر الأوضاع من جديد، ويخرج الجيش السوري من لبنان، ويبقى حسن نصر الله يبتزّ بقية اللبنانيين بسلاحه، مرّة باحتلاله بيروت، وثانية بالصعود نحو جبل لبنان وعاليه، ومرة في سهل البقاع، وأخرى بقطع طريق المطار الدولي، وهكذا؛ حتى جاءت الثورة السورية 2011، فتمادت هذه الميليشيا أكثر وأكثر، وقطعت الحدود، وأصبحت تقتل الشعب السوري، دون أي اكتراث لوجود دولة اسمها لبنان.

ميشيل عون الذي تجاوز الثمانين عامًا من العمر، عاش سنواته -تلك- حالمًا بكرسي الرئاسة اللبنانية، فعندما كان قائدًا للجيش قاد حربه على مسيحيي لبنان؛ ليحجم دور قادتهم، ويصبح -بالتالي- زعيمًا عسكريًا أوحد للموارنة، في ظل توزّع القوى العسكرية التي فرضها الواقع اللبناني، فاحتل قصر بعبدا، ومنع وصول أي رئيس إليه، ودخل في صراع مع الجيش السوري الذي أدى إلى شهرته؛ ليحاصَر ويهرب إلى السفارة الفرنسية، ثم يلجأ إلى باريس.

باريس التي جاء منها الخميني، بعد انتصار ما سمي بـ “الثورة الإسلامية في إيران” عام 1979، بقي فيها ميشيل عون كنصف ناشط سياسي، على نصف واجهة اجتماعية، على بقايا غرور عسكري، إلى أن جاء اغتيال الرئيس الحريري، وكما الخميني حين استغل نضال الإيرانيين، وركب موجة التغيير، جاء عون -لكن بحجم أقل- محاولًا صنع هالة حوله، مستغلًا زخم ما سمي بـ “ثورة الأرز”؛ ليركب موجة التغيير، فتتقابل الخمينية الجديدة الممثلة بلبنان بميليشيا حزب الله مع العونية الجديدة، رامية خلفها كل ثقافة باريس ونورها، لتفتح نيرانها يمينًا ويسارا على كل من يعيق حركتها، ممن بقي واقفًا على تلك الأرض اللبنانية، التي أنهكها الأسد الأب، ثم الابن، وبدأ الاستهتار الذي يخلو من أي حس سياسي؛ حتى بطريقة الانتقام من كل شهداء لبنان الذين اغتيلوا قبل وبعد الخروج السوري، وبات الانقسام الحاد سمة الطبقة السياسية اللبنانية.

فتهكمات عون على مسيرة رفيق الحريري، وتبريراته لنظام الأسد، ودفاعه عن إيران وحسن نصرالله، أخذت طابعًا سطحيًا أشبه بألفاظ قطاع الطرق آنذاك، أكثر ما تكون خارجة عن رجل له تجربة سياسية يُفترض أنها علمته شيئًا؛ لتأتي الثورة السورية، فيصبح الرجل وجماعته كأي مرابٍ تاريخي، يقف على ناصية الحروب؛ ليبيع العسكر أرغفة خبز، مقابل رهن ذكرياتهم، وأخذ صهره وأتباعه يتعاملون مع موضوع اللاجئين السوريين بلبنان، بطريقة الدونكيشوت الذي يستعرض ضعفه على خصم مغلوب على أمره، ليُبرز قبّعته، وأخذت البلديات التابعة له تبتز هؤلاء اللاجئين بأي شيء يخطر على بال، بما فيه التجوال لشراء الحاجيات الأساسية.

ترشيح سعد الحريري لميشيل عون هو -بالتأكيد- صفقة متكاملة، طُبخت في الكواليس المسرحية، يُكلّف -في حال وصوله إلى قصر بعبدا- الحريري برئاسة حكومة لبنان، ولكن لن يصل عون إلى الرئاسة، بدون ترشيح نواب ميليشيا حزب الله، وعلى هذا ظهر نصر الله يُعلن، أن جميع ممثليه سيحضرون الجلسة المُقررة للانتخاب، وسيفتحون أوراق انتخابهم لعون أمام الكاميرات، إن كان هنالك من يشكك بأن أحدًا منهم لم ينتخبه، وهذا ربما يُعدّ مقدمة لإمكانية التشكيك، بسبب فشل عون في الوصول إلى الرئاسة في حال حصل شيء مفاجئ؛ إذ إن أصوات كتلة المستقبل قد لا تكون كاملة لصالح عون؛ بسبب الخلاف السابق معه، وكتلة وليد جنبلاط لم تحسم أمرها، وهي قد ترتبط مع نبيه بري، حيث هذا الأخير يطمح ببقائه رئيسًا للبرلمان، وجنبلاط يطمح بحصة له بالحكومة، وبهذا يظهر النظام السياسي اللبناني، كإعدادات المسرح قبل افتتاح المسرحية ووقوف النجم على الخشبة، بحيث تكتمل التوليفة بما فيها الموسيقا وحركة الستارة.

فتح الحريري الستارة على مركز الرئاسة، كسياسي “سني”، استدعى أن يوافق على الصفقة رافعها الإقليمي حسن نصر الله الشيعي، وأيدها سمير جعجع الماروني “المناضل” في سجون الأسد اللبنانية، وسيضع الموسيقا والإضاءة للمسرحية وليد جنبلاط الدرزي، فيصل رجل بعبدا المسيحي إلى كرسيه التاريخي؛ ليصبح -بالمقابل نبيه بري نجم المرحلة المقبلة للمعارضة، بصفته برلمانيًا متنورًا، وليس نتاج حركة أمل الشيعية، فيظهر رجل سني يُرتب أوراق خطابه؛ ليدخل غمار الانتخابات النيابية المقبلة، هو أشرف ريفي، فيتنازل وليد جنبلاط عن دوره النيابي لصالح ابنه تيمور، ضمن مرحلة الخلافة الدرزية في المعارضة السياسية، المتناسقة مع نبيه بري وأشرف ريفي، ومن بقي من بيت جميل؛ لتبدأ مرحلة لبنانية جديدة، فيها من الجوع القبلي للسلطة ما دون الوطنية، ما يختصر هذا الوطن العربي، بدوله وأسرارها وخبايا انتقامها الدموي، من الربيع العربي الذي هتف للوطن والإنسان، فأعادوه للطائفة والقبيلة وشيخ الحارة.




المصدر