on
“قبل الميلاد” “مقاربة نقدية في لغة النصّ ورؤاه”
” يا ربّ الناس، والملأ أجمعين أسألك: من تراه قد مكّن للذئاب في الأرض..؟!”. ص152
ربما في هذا السؤال يختزل “همام” جوهر هذه السرديّة الروائية ومرتكزها، كما أنّ محاولة الإجابة عليه مهمّة أولى في وعي بطلها..
في بناء الرواية ومقولات النصّ:
وفق رؤية عميقة وتصوّر واعٍ، تدعمه العناية والدراية، ينهض بناء الرواية رؤيوياً، إذ تفتتح أحداثها بصحو “همام” البيولوجيّ من غمار نومٍ حالم، وبفعل الصوت/الضمير، يبدأ وعي البطل بالواقع المزري، وبأسبابه، وبمدى تأزّمه وانسداد أفقه، وبانعدام الأمل أمام إصلاحه، لتنتهي الرواية عبر أسئلة يكتنز بها النصّ إلى الصحو الفكريّ المبشّر بالثورة التي يمكن بها كسر الحلقة المفرغة ضمن معادلة الاستبداد، والجهل، وشرورهما.
أوّل ما يلفت القارئ تبويب فصول الرواية وفق الترتيب الأبجديّ القديم للحروف “أبجد ـ هوز” الذي تختلف الروايات بشأن ترتيبه بين من يقول بأصله الساميّ وبين من ينسبه إلى السحرة والمشعوذين.. لكنّا في معرض تناولنا لمقولات النصّ الروائي يمكن أن نستشفّ رغبة مضمرة لدى الكاتب، تنمّ عن ضرورة إعادة ترتيب عالمنا، بل وتاريخنا وفق نظامٍ بعيدٍ عن الفوضى، نظامٍ محكمٍ يستند إلى أبجديّة واضحةٍ، تستند إلى حسابات العقل والمنطق المجرّدين.
تبرز شخصيّة البطل المطلق للنصّ كمركّب يجمع في بنيته بين أصالة مهدّدة بوجودها، وبين وعيٍ معاصر تلاحقه معاول التزييف. إنّه “همام” الإنسان الذي قد تفتر همّته وقد يضعف تصميمه ومثابرته، وتهتزّ إرادته الخيّرة أمام المهامّ الصعبة التي يتصدّى لها لاستعادة توازن مفقود في وطنٍ اختلّت قيمه، وغابت محدّداته، وعمّ فيه الفساد والبلاء بفعل الاستبداد وطغيان قوى الشرّ. إنّ إنسانية “همام” تحتاج بطبيعتها إلى المحفّز والمحرّض لذا يبدو الصوت/الضمير، بما يمثله من وجدانٍ جمعيّ، ومن خلاصة روحيّة وأخلاقيّة لا تستسلم لنومٍ أو حلم، عاملاً مهمّا لا يفتأ يستحثّ “الهمام”، ويدفعه لليقظة والفعل، والاندفاع والإقدام. فلا يمكن للصوت/الضمير أن يتأثّر بالمغريات وليس بالإمكان توريطه، أو رشوته وإفساده.
الأيديولوجيّات، كما يرد على لسان “همام”، جميعها حليفة للسلطة، بل هي جزء منها كما أنّ “مصالح الأحزاب تعلو على مصالح الأوطان”. لذا فإنّ البوصلة الحقيقية للشعب هي في الشعور بالانتماء، وبالإخلاص للواجب بعيداً عن المصالح الضيّقة، والرغبات الأنانية التي يمكن لها أن تحرف الفرد عن مقاصده الوطنية، والإنسانيّة النبيلة.
ثمّة من يربط بين المدينة والسرد. تظهر حلب “قبل الميلاد” حاضرةً تتكاثف في روحها، وبين معالمها خلاصات لأزمنة مشرقة، متآلفة. لكنّها مشرفة على الاختناق والموت بفعل الطغيان المديد، وتحالف وحوش السلطة والمال، فها هي ذي تفقد صروحها المدنيّة، لتغدو مرتعاً للجريمة والزعران، كما أنّها تفقد رئات تنفسها، لتحلّ كتل الأسمنت الصمّاء محلَّ الحدائق، ولتتزنّر بحزام العشوائيات بديلاً من البساتين والمروج الخضراء. لكنّ التفاصيل الصغيرة التي تعنى بوصف أدقّ الجزئيات وملامح الأمكنة، والشخوص والمواقف، تسبغ نكهة محلية خالصة، وتمنح الأحداث حضوراً ديناميّاً حيّاً ضمن صورة البؤس، والفقر التي وصل إليها حال الناس:
“يمدّ يده إلى جيبه يخرج قطعة معدنيّة: مفتاحاً أو قطعة نقود.. يأخذ بقرع حديد الباب.. إنّه خالٍ من أيّ سقاطة أو زرّ جرس، وهو طبعاً من دون لوحةٍ تحمل اسم الساكن”. ص48.
لكن ثمّة جمال يمكننا التقاطه في مواطن الفقر والبؤس، ويمكن للفنّ أن يتحايل على القبح في محاولة منه للتخفيف من وطأة المعاناة والقسوة والبشاعة:
“فهذا الباب الحديدي ليس أكثر من لوحٍ من صاج حديدي مشبوك بقضيبين رفيعين من الحديد، يتقاطعان في منتصف كلّ قسمٍ من مصراعيه.. الحدّاد الصانع لم يتركه هكذا، بل أبرز شيئاً من فنّه، فوضع فوق كلّ نقطة تقاطع شكلاً لوردة”. ص48.
كذلك نجد باحة دار “حامد” الصغيرة الكائنة في أحزمة البؤس “العشوائيات” قد ملأتها أمّه بالريحان والورود والأزهار..
أيضاً تطمح الفنون، والكتابة بعض من تجليّاتها، ليكون لها دورٌ ووظيفة:
“الكتابة، يا صبحي، ما خلقت للتخدير والمخادعة.. بل هي للنفخ في قيثارة الروح، ولمداعبة أوتار الحواس، وبذلك فقط تؤدي وظيفتها”.
تطرح الرواية، وهي، للعلم، منجزة قبل الثورة بفترة، نبوءتها في أكثر من موضع حول ما الذي يمكن أن تؤول إليه، وقد آلت كما نشهد الآن، دولة الظلم..؟!. لنقرأ ما يقوله “عبد الفتاح” الشيخ العرّاف:
“ثمّة هاجسٌ في داخلي يوسوس لي، منذ فترة بأنّ قاعاً ما تنتظرنا.. وهي أدنى ممّا عليه الآن، وهي الأسوأ، بكلّ تأكيد”. ص59.
لكنّ “طباع الضباع” لا تقود إلاّ للخراب، وهو ما يثبت، بل ويجسّد مقولة “الكواكبي”، ملاذ همام وبعض الشخصيّات في نهاية الرواية، إذ إنّ زوال دولة الاستبداد، يستتبع معه سفك الدماء وخراب العمران.
إنّ منهج الاستبداد يقوم على استجلاب أجرائه من منابت القذارة وتمكينها ما يسهل عمليّة تدمير معالم الحضارة والجمال لأنّه على عداءٍ معهما فها هو يهدم داراً عظيمة للفنون ليقيم مكانها مشروعاً لحيتان المال، أو ربما لزعيمهم “الرمرام” رمز التغوّل المالي وشريك السلطة:
“رئيس مجلس المدينة، مدينتنا حلب الشهباء، انظر إليه يا شعبان، يخرج من قلب الأكوام التي أمامنا، يخرج نظيفاً مكويّاً”. ص95.
لكنّ المعركة الحقيقية تكمن مع رؤوس الفساد، فالصغار الأجراء ليسوا أكثر من ضحايا، وإن نبتت لهم أنياب وباتوا سبباً مباشراً في الإيذاء:
“لا لم تهزم.. فمعركتك ليست هنا، ولا مع أمثال هذا الصعلوك البائس، إنّه ضحيّة”. ص97.
حول اللغة وتعدّد المضامين
“قبل الميلاد” عنوانٌ لافت لتجربة روائية أولى لـ: “محمود الوهب” تأتي ضمن مصفوفة لغويّة مرنة “متأقلمة”، ومتناسبة، تجمع ما بين الواقعيّ والحلمي، وتلامس السريالي في بعض تجلياتها بما يلبّي سيرورة المضامين التي تتناوب فيما بين هذه المذاهب والتيارات الأدبية.
إنّ تضادّات الواقع وتناقضاته تظهرها بجلاء وعمق تلك الفروق الحادّة بين الأنماط السلوكية المعيشية والمعرفيّة بدلالاتها المختلفة، بل نجد الواقع يتجسّد أكثر في تصوير البؤس الإنسانيّ، وفي التشوّه الذي أصاب البنى الحضارية والمنظومات القيمية والأخلاقية. كذلك في الاعتقال والتعذيب، والقهر والظلم الممارس من سلطة عميقة أمنيّة واستبدادية تنتهك الحقوق، وتدمّر الإرث الإنساني والطبيعي، بل والسماويّ بما تمتلكه من فائض الثروة والقوّة، ومن وسائل العنف والتدمير. من هنا لا بدّ للغة من أن تأتي دقيقة متماسكةً وواضحة، مشحونة دلالياً وموظفة معرفيّاً بما يعرّي واقع الحال ويرسم صورة كاشفة لمأساة المدينة:
“مهما يكن يا شعبان، فالقيم لا تتجزّأ.. أنت قلت ذلك ثمّ ها هم أولاء قد استغلوا تلك السقطة، واختبؤوا خلفها، فبرّؤوا المجرم، وصرفوك من الخدمة”. ص91.
لكنّ اللغة ترقّ وتنبت لها أجنحة، وتبتلّ بالشعر والعذوبة حين يظهر الحبّ، وينطلق المونولوج، وتبدأ المخيلة بالاشتعال:
“أقترب منها.. أتأمّل ثمرتي صدرها، وقد اكتستا حمرة خفيفة منحتهما لمعان الثمر الطازج وبريقه..” ص148.
كذلك حين يلبس همام لباس جدّه ويتمنطق بسيفه الخشبيّ المثلّم، فيبدأ رحلته لمكافحة الفساد، وإحلال العدل كمحارب من القرون السالفة نجد اللغة وقد ارتقت أدراج الانزياح لتلامس أطراف اللامعقول، وبما يتناسب مع هذه المشاهد السريالية المترعة بتصوير ملحمي ساحر:
“إنّ أشدّ ما يؤلمني، الآن، هو ضياع الشجرة.. هي شجرة جدّي لا جدال.. لعاصم الصخرة، الفضلُ في غرسها، ولله وحده نموّها ورعايتها، وأظنها كانت، بما تفرّعت عنه، أساس الغابة كلها..” ص41.
أيضاً نجد اللغة وقد حلّقت عالياً حين يصوّر لنا مفهوماً أو حقيقةً تلك الجنّة التي يعيش فيها السيّد الجليل بما يحيط بها، وما تنطوي عليه من غموض وسحر، ومباهج وفتن.. كذلك نجدها في مشهد إنقاذ الناس من الصخرة المتدحرجة من أعلى.. وقس على ذلك مشاهد كثيرة تتوزّع في جسد الرواية.
مع ذلك قد يحدث أحياناً تبادل للأدوار فنجد أنّ بعض الصور الشعريّة، ربّما لأنّها الأكثر تكثيفاً وقدرة بلاغيّاً ودلاليّاً، هي التي يستخدمها الكاتب للتعبير والوصف:
“إنهم لم ينالوا سوى غبار الخيبة”. ص48.
“العجز حبل خشن يلفّ أعناقنا، يدميها”.ص59.
وبعدُ، فإنّ العلم والفكر المؤيَّدان بالعمل والأمل. هما السلاح الأمضى لمواجهة الطغيان. ومن دونهما لا يمكن فهم آليّاته، والتغلّب عليها، بل سيكون حينذاك السقوط، والتدحرج معاً، وما يتبعهما من أذىً وخيبةٍ وانكسار. لعلّها الإجابة الأهمّ على سؤال جوهريّ سقناه في بداية القراءة حيث تنتهي الرواية بامتلاك عددٍ من شخوصها نسخاً من كتاب “طباع الضباع”، وببقاء “ميّاسة”، في حضرة الشيخ عبد الرحمن الكواكبي بانتظار الميلاد، ولعلّها هنا، أي مياسة، رمز لحلب الأنثى، أو ربّما لسورية كوطن.
صدى الشام