دواعش الشعر


سوزان علي

أين الشعر؟

عناوين كثيرة طبعت وتطبع منذ بداية المأساة السورية في الداخل والخارج، ومع إيماني العميق بالفوضى التي تحدثها الحروب وتفقدنا الرؤية، إلا أن النتاجات الشعرية فاقت أي إنتاج أدبي آخر.

مع كل الغرق، مع كل الضبابية التي تحيط بالمشهد؛ سياسات تتقاتل على مد نفوذها، صراع ينمو، شعب يصرخ، الشعر أيضًا تتصارع على وجوديته وذائقته وحيويته، “المواهب”، هذا ما يدل عليه أغلب النصوص الشعرية في السنوات الست الأخيرة في سورية.

الانطباعية تتجلى للحظة، تشعر فيها أن الشاعر يرقب ما يجري في الشارع، ثم يبدأ بتدوين أحداثه داخل ورقة في جيبه، ثم ينسخها بصورة آلية فوق الكتاب المنجز.

تأخذ رحى الحرب مفردات الشعر وتطحنها، لتجردها من كل ما ألفناه، من الشعر السوري، أو كل ما ألفناه من الشعر.

أين الكتاب؟

وسائل التواصل الاجتماعي، التي تحتفي باليومي؛ بـ “صباح الخير”، بمقطع أعجبك، بأغنية اشتقتَ إليها، هناك سؤال صغير فحسب، عليك أن تجيب عنه كل يوم: بماذا تفكر الآن؟ أو: كيف حالك الآن؟

هل يستوعب هذا السؤال قصيدة جاءت في أكثر من 20 سطرًا؟ وهل بمقدور كتاب ذي صفحات بيضاء متأملة، نسخ حالتك الآنية تلك؟  وما الاستمرارية في نص صمم بنيانه بعيدًا عن طبيعته، إلى متى سيعيش هكذا نص؟

مجموعات كثيرة اطلعت عليها، أعرف صفحات أصحابها مسبقًا، في العالم الافتراضي الأزرق، كانت قد اقتطعتْ نصوصًا كاملةً لترميها دون أدنى مسؤولية، وتتركها تتنازع فوق روح البياض الورقي.

أين الجمهور؟

سبق أن استمعت إلى أحدهم في إحدى الأمسيات، لم تخن قصائده جوهرها فحسب، في كتاب، بل -أيضًا- في نطق وصوت الحروف النابعة من حنجرة الشاعر. مرة أخرى، تعري صفحات الفيسبوك الشاعر فوق المنابر. زر “أعجبني” غير موجود هنا للعامة “الجمهور”، وزر التعديل لم يعد بالإمكان استخدامه بالنسبة لشاعر افتراضي.

الكارثة حدثت لنا في الموت، ولم يكن هناك من عمل يوازي هذا القتل، لأننا نمشي في أثره… نحن لم نجف، وإن نظرنا إلى الوراء، لن نسمع سوى صوت ظلال تتكسر، وكما نضع كفًا فوق جبهتنا أثناء ظهيرة حادة لنرى بصعوبة، كذلك الشعر اليوم، يكاد لا يرى.

مجموعات أخرى تأخذ انشغالها بالذات وسجنها –أيضًا- عنوانًا لها! موت تدور حلقاته بسرعة مع الأنا وللأنا، وكأننا لا نقرأ سوى تجربة يومية تشاهد الآني وتمنع الخيال بوحشية من الكلام والبوح، وتفضل أن تسقي زهور الشرفة وتراقب السماء وتذهب في نزهة إلى البحر… إننا أمام حدث عائلي أو شخصي.

ما لفرق بين من يحب الشعر وبين الشاعر في سورية الآن؟ ولماذا لا يكتفي كثيرون بحب الشعر وقراءته وحضور أمسياته ببن الحين والآخر؟

في دمشق، ومن طقوس الشعر التي عايشتنا وخبِرْنا سعادتها وحزنها معًا، قبل وأثناء الحرب، كلنا نعرف تلك الأسماء الجميلة الرائعة التي دأبت على حضور الأمسيات وحفلات التوقيع. أكثر من صديق الشاعر نفسه، أو أكثر حتى من الشعراء، علمًا أنهم أحبوا الشعر وأخلصوا له، ولم يفكروا بامتهانه يومًا. أعرف كثيرين منهم، من يعمل في مؤسسة من مؤسسات الدولة، أو من تقاعد عن عمله منذ زمن مضى، هؤلاء جمهور الشعر الحقيقي، يأتون إليه من كل مكان، أصافحهم بحرارة في كل أمسية شعرية أو نشاط ثقافي، كما لو كنت أقول لهم: شكرًا يا أصدقاء الشعر.

كلنا يعلم، أنه ما من منصب أو ثراء أو أمجاد في امتهان الشعر. لا بل المعروف للجميع أكثر، حالة الشاعر البائس الفقير المتشرد على مر الأزمان. دعونا إذًا نفسر حال الهواة في سورية ورغبتهم الجادة في أن يكونوا شعراء. سنحتاج هنا إلى علم النفس لنردم التصعيدات التي يبالغ في مدحها وإعطائها مكانا قد لا يكون لها في كثير من الأحيان.

عندما يكون الشعر مجرد تفريغ، ورغبة في ترتيب العُقد داخل مكان واحد؛ كأن الشاعر يظن أنه يخنقها، يقتلها في كتاب، مبعدًا إياها عن حياته! الأمر يا عزيزي الشاعر يصلنا كما فكرت به تمامًا، وكأنك تروي لنا قصة نافذتك مع الريح، بينما تمارس العادة السرية. هذا ما نجده لدى الشاعرات أكثر من الشعراء الرجال، بينما يطمح الرجل للاختلاف -قليلًا- والانتماء إلى مجانين وصعاليك المدينة. المرأة تخربش كبتها بقلم أسود وخط عريض، وتعلن حريتها بحروف ترتجف، واستعراض حالك.

في أوقاتنا الحالية، بينما يتصارع المحللون والسياسيون على تفكيك القارات والتاريخ والصراع، المحللون والسياسيون والمواقع الإلكترونية والمجلات والصحف، لا أحد من أولئك يسمع صوت الشعر وهو يبكي، فالشعراء غدوا أكثر من حروف المجلة أو الموقع خلال عدد كامل.

قراءة المشهد السوري وتحليله سياسيًا واستراتيجيًا واجتماعيًا واقتصاديًا…إلخ، مهمات نادرة، تحتاج إلى أسماء لها تاريخها وخبرتها، أما الشعر فلا يحتاج الكثير، خاصةً في زمن الحرب.

لا يخصص تمويل تلك المواقع والمجلات شيئًا يذكر للأدب، من مكافآتهم المادية، الشعر غزير كثير سهل؛ وإن خصصوا مبلغًا له فلن يتمكنوا من متابعة إصدار المجلة، أو أنهم سيضطرون حتى إلى إغلاقها.

من المسؤول عن قطع الشجرة مرةً أخرى؟؟

رافقت جرائم الشعر، الجرائم الأخرى في بلادي، لكل ملاعبه ومموليه وجماهيره وداعميه. دور النشر -في سورية- تعيد وتكرر على مسامعنا، أن ما تطبعه من مجموعات شعرية لا يدر عليها أرباحًا تذكر، مقارنةً بالكتب ذات المحتوى الفلسفي أو التاريخي الديني، وإن كان من زمن للأدب، فهو زمن الرواية بلا منازع، تَعتبر دور النشر طباعة مجموعة شعرية خسارة حقيقية لها، فمن ذا الذي سيشتري -من معرضٍ للكتب في إحدى المدن العربية- كتاب شعر، باستثناء بعض المعارف والأقرباء والأصدقاء الذين أتخمهم الشاعر بخبر وجود كتابه في ذاك المعرض!؟

تعالوا إلى الضفة الأخرى، ولنرى ما لذي فعلته الحرب من تشويه، من أشلاء، من ثقوب في مخيلتنا، نحن الجماهير الكادحة المتعطشين المتشوقين لقصيدة تأخذنا معها إلى سطح القمر، بعيدًا عن الدمار الذي يحيط بنا.

يجيبني شعراء السبعينيات، الذين أحسدهم على زمنهم الجميل ذاك. نحن الشبيبة لم ينتظرنا الوطن قليلًا كي نكتب عن الشاي والعصر والسفر واستقبال الضيوف. يقولون ويصرون على حكمة، لا أظنهم مارسوها في السبعينيات، لكنهم حفظوها وتعلموها جيدًا بفعل العمر، تقول الحكمة: “إن الزمن وحده كفيل بأن يُبقي الجمال ويزيل الهامشي الإضافي الزائد في فضاء الشعر”

يتابع شعراء السبعينيات توصيفهم لموجة الشعر السوري الغزيرة الآن:

ليس من مشكلة في الكتابة، فليكتب الجميع، أفضل من أن تنحرف خيالاتهم ويلتحقون بمصاصي الدماء.

اكتب ولا تسرق

اكتب ولا تقتل

اكتب ولا تنحرف

اكتب الشعر ولا تلحق داعش.

وأنا أقول -بدوري- إنه زمني الذي أعيشه الآن، لم يترك لي أحد رصيفًا كي أعترف بحق الشعر علي، وبواجبي تجاه شجرته الطيبة التي لم تتركني يومًا، أكتب قليلًا، أريد أن أشبه ميلان السنديانة الآن؛ تلك التي زرعتها جدتي راجيةً منها تحت ضوء القمر، ألا تتركني وحيدةً يومًا ما، لذلك أفضل الانحراف بالخيالات صوب جريمةٍ ما، على أن أكتب قصيدةً تشوه جسدي وروحي قبل كل شيء آخر.

على الطرف الآخر حروب، قتلى ومجازر، وهنا تسيل دماء الشعر؛ الشعر الذي كان يحلم أن يعود إلى الغابة.

“كلا إن الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة، إنه يعطي الانطباع بأنه متعب” هكذا وصّف الشاعر أوكتافيو باث، حال الشعر الذي أحبه. البلاد –أيضًا- متعبة؛ حيث القبور مفتوحة سلفًا، والغبار غدا سميكًا فوق الكتب. الوقت يترنح في ظله، والشعر ينتظر طارقًا جديدًا يقوده إلى العماء الأول، صافيًا عذبًا كما كان.




المصدر