“مذ لم أمت” فاتحةٌ مختلفة لحياة أخرى


أبحثُ في الأشلاء التي جمّعها “رامي” في كيسه الورقي، كلها تشبهه، كلها شُبهةٌ لموتٍ ما كنا نعيشه، ومازلنا.

يجمع في كتابه “مذ لم أمت” نصوصًا منثورةً كالموت الذي يتحدث عنه، وكاللاجئين الذين يعدّ أنفاسهم حزنًا فحزنًا، ليقول إننا لم نزل أحياءً  .. ربما.

“قبل القيامة بدقائق، عبَر الأحياء الموتى صراطهم الأوعج نحو موتٍ أقل، العسكر يبطحونهم ويسوقونهم ويسرقونهم ويسألون كل واحدٍ منهم: من ربك ؟ ما دينك ؟ ما كتابك؟ ”

“هاربٌ من الجنة” صراعٌ بين القوة والقناعة، بين الناس والعسكر، بين الأكثر حياةً والأكثر موتًا، ويستمر فيها بتمرير فكرته، القتلة يهيؤون القتل لمن بعدهم، فطفل القاتل يلبس بزة عسكرية ويلعب بأدواته الطفولية راميًا براميل على الناس، فيضحك، ويطلق عليهم الصواريخ والقنابل الفراغية، مجسدًا الموروث الديني للقيامة، والملموس الواقعيّ لقيامةٍ تحصدنا، على أنه “قبل (البعث) كانت الحياة أجمل” .

لغة الثنائيات التي تحكمنا حكمتْ على اللاجئ والآخر وعلى اللاجئ الآخر أيضًا، القديم المتجدد، في لجوئه وحزنه فـ “الكل متغيرٌ ولا ثابت إلا اللاجئ، الوطنُ ـ ولو كان مؤقتًاـ صار سجنًا”، فالماضي عند “رامي” يمضي إلى الأمام لا إلى الوراء والجنسية / الوهم أصبحت أفضلية افتراضية.

كثيرًا ما يتعمّد “رامي” الحديث والحوار الشخصي، بينَه وبينه، ولو لم يطرحها بصيغة الحوار، لكنه يتحدث في أكثر المواضع راويًا عن نفسه، وقلّما يروي عن الآخرين، ولعل الشعر الذي كان يراقبه وهو يكتب هذه النصوص، كان يضع فيها بعض أصابعه، فيظهر أثر أصابع الشعر على الورق.

ولا ريب أنه عبث ـ كعادته ـ باللغة قليلًا، وخاصة عندما خاطب الضمائر وفرّدها، وأطلق سراح الضمائر المتصلة حتى، فـ هو لا يريد أن يقع في حبـ(ها) مجرّدًا (ها) ومحاكيًا لها، دون أن تكون ضميرًا متصلًا إلّا به.

الخيمة ومشتاقاتها، فلسطين ومعانيها، المفاتيح وأقفالها، القتال وما يحتويه ـ من قبل ومن بعد ـ، الموت وما يجرّه معه، الزنزانة وشهواتها، والحب المتضائل في أرجاء الخوف، هذه معايير اللغة العامة عند “رامي”، ينقّلها بين أصابعه كطاهٍ محترفٍ يعرف كيف يقدّم الوجبة المطلوبة ويعتني بمقاديرها ويضيف عليها مالا يخلّ بها.

يبحث في تلك الزوايا، حيث عرّشت العناكب وغادر الحمام أعشاشه، يضيء عتمةً موغلة في التجاهل ويخفت الضوء عن نورٍ مُصطنع، ويعيد الضفائر إلى قبور المقاتلات اللواتي يدافعن عن قبور أحبائهن وعن حياتهم، تلك الضفائر التي تترامى خلف

“خمسة أعوامٍ سادسهم طفلٌ لم أنجبه، رميته في القمامة، لا أعرف بأي أرض حُرق أو دفن أو أعيد تدويره على شكل ساعة تذكرني بأني لم أمت! .. وأنا لذلك لم أمت، لو أنني مت لصرت بطلًا، وأنا لا أرى في البطولة شيئًا يستحق”، إعادة طرح المفاهيم، وإعادة صياغتها، ديدن “رامي”، في النثر والشعر، لا فرق عنده، لذلك نلحظ شعره ظاهرًا فيه حيثما كان، أو أنه هو الذي يظهر دائمًا ولكن بأشكال متعددة، هل يغلب شعره أم يغلبه فيبدو كل مرة بشكلٍ ما؟

“رامي” الذي لم يكن مجازيًا هنا، فـ”الأحجار الأربعة” اللاتي اسّاقطت على رأسه لتقتله يومًا ـ حين خرج من زنزانته في دمشق ـ ، لم تقتله، وهو الذي يحب تحديد الفاعل دائمًا، إلا الفاعل هنا فهو أوضح من أن يُذكر، فمن يرمي البراميل على الناس يرسل من يرمي الحجارة على رؤوس الخارجين من موت الزنازين لتقتلهم أو تؤذيهم، ومنذ ذلك، وحتى الآن، يتذوق “رامي” الجمال بلسانٍ مختلف، ويفتح معجم بلاده، باب الحرب، فصل الخوف، ليغرق في كره البطولة، لحظات الموت المكثفة حين تفشل تبدأ حياة أخرى تمامًا، فاتحتها مختلفة عن مخاض الولادة وعن دعوات القابِلة وصلوات الأقارب، إنها حياة محضة دون أية شوائب أخرى.

لم يختر “رامي” سمةً خاصة يضمنها نصوصه كي يظهر، إنه يظهر دون سمة، هل هو رهانٌ جديد؟ عليه هو أن يختار ذلك ويحدده، هذا الرهان وكأنه سيكون وطنًا له، خاصة أن قال ذات نص “يأبى ابن الخيمة أن يعرف وطنًا”.

بصراحة مطلقة، يحقق “رامي” آمال كثيرٍ منا، أقصد الذين نهتم بأن تصل الفكرة / النص / الشعر / الصورة، بعيدًا عن من أوصلها.

 

 

على الهامش:

ـ صدر كتاب “مذ لم أمت” في 21 ـ 10 ـ 2016 عن دار بيت المواطن للنشر ـ بيروت للشاعر السوري الفلسطيني “رامي العاشق” .

ـ العبارات ما بين ” ” هي اقتباساتٌ من الكتاب.



صدى الشام