الزمن الأميركي القلق


ميخائيل سعد

روى لي أحد المونترياليين من أصل سوري، توفي قبل سنوات، أن عمه كان كاهنًا بروتستانتنيًا، يحمل الجنسية الأميركية. في شيخوخته أشتد به الحنين، بعد سنوات الهجرة الطويلة، فقرر العودة إلى بلده الأصلي ومربع صباه سورية، وتقديم بعض الخدمات للشعب السوري، عبر تأسيس مركز خدمات صحي واجتماعي للمسنين، يصرف عليه من مدخراته، ومن مساعدات المؤمنين الأميركيين الذين قد يتبرعون له. ولما لم يكن -في ذلك الزمن (1969) – من وجود رسمي للأميركيين في سورية، بعد حرب 1967، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، فقد قرر الكاهن الحضور إلى بيروت؛ كي يكون قريبًا من سورية، وليستفيد من خدمات السفارة الأميركية له كمواطن أميركي، في حال الحاجة إليها.

بعد وصوله إلى بيروت بأسابيع، زار السفارة الأميركية والتقى السفير، طالبًا رأيه في مشروع سفره إلى سورية، وحدّثه عن نيته في بناء مؤسسة اجتماعية أميركية تهتم بالمسنين، فنصحه السفير بتأجيل سفره حاليًا، والعودة لزيارته بعد مضي عدة أشهر؛ لأن الوقت -الآن- غير ملائم لسفر الأميركيين إلى سورية، والوضع السياسي غير مستقر لتأسيس مشروعات هناك.

بعد انقلاب حافظ الأسد “التصحيحي” عام 1970، وفي إحدى زيارات الكاهن للسفارة الأميركية، قال له السفير: تستطيع الآن السفر إلى سورية، والبدء في تأسيس مشروعك الخيري؛ فقد بدأت أوضاع سورية تميل إلى الاستقرار طويل الأجل.

ذكّرني حديث الرجل بما كان يتم تداوله في أوساط البعثيين المناوئين لحافظ الأسد، من شائعات “مؤكدة” عنه، كانت إحداها تقول: إنه قبل آخر يوم من أيام المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي للحزب، الذي كان قد عُقد في دمشق، في دورة استثنائية؛ لمعالجة أزمة حافظ الأسد المستعصية، التي تعصف بالبلاد منذ عام 1968، وبعد أن لاح في الأفق أن المؤتمرين بصدد اتخاذ قرار بإقالة “الرفيق” حافظ الأسد من وزارة الدفاع، خرج الأخير من الاجتماع وتوجه إلى السفارة الروسية ثم الأميركية. وتقول الشائعة: إن السفارتين المتنافستين قد شجّعتا الأسد على القيام بانقلابه، الذي عُرف -في ما بعد- باسم “الحركة التصحيحية المجيدة”، وإن الدولتين ستؤيدانه فورًا.

في ذلك الزمن من عام السبعين، كنت قد تلقيت جوابًا من إحدى الجامعات الألمانية بقبولي فيها، لدراسة الطب، الطريق الأسرع للثروة، قبل انتصار طريق التطوع في المخابرات، فأخذت إجازة من مدرستي في قرية المعبطلي، قرب عفرين، وذهبت إلى دمشق في محاولة للحصول على استيداع من وزارة التربية. كنت أعرف المرحوم ماجد هابيل، فهو زميلي في دار المعلمين، والأخ الصغير سامي هابيل، عضو القيادة القومية، في ذلك الوقت، وكنا نتابع عبر ماجد ما يحدث في المؤتمر كل مساء، وكان سامي يروي لأخيه كيف كان حافظ الأسد صامتًا طوال الوقت، لا يرد على استفزاز الرفاق، على الرغم من محاولة بعضهم السخرية منه، وأنه لا يعرف أن يقول جملة مفيدة، لذلك؛ يفضل الصمت. كانت سذاجتنا، ونحن في بداية العشرينيات من أعمارنا، تجعلنا نُصدّق أننا منتصرون على “العسكر” لا محالة، وأن وقت انتصار اليسار الذي سيبعث أمجاد الأمة العربية وسيادة فقرائها، نهائيًا، قاب قوسين أو أدنى، وما هي إلا أيام وينتهي وجود الأسد، العقبة الرئيسة في وجه الحزب القائد!

ولكن، للأسف، كانت الرغبة الأميركية في رؤية سورية “مستقرة” بين يدي الجنرال الأسد أقوى من أحلامنا الطفولية في نشر الاشتراكية وتحقيق حلم الجماهير في الوحدة العربية. وهكذا انتصر الجنرال، وأصبح رئيسًا إلى الأبد، وعدت أنا إلى مدرستي ممنوعًا من السفر، دون الحصول على الاستيداع، كي أبقى فقيرًا، ودخل الكاهن الأميركي إلى سورية “مُكرّسًا” بالماء المقدس، انتصار الأسد.

بعد 47 سنة من تلك الوقائع، عاد الأميركيون للبحث عن جنرال يُحقق لهم الاستقرار المطلوب في سورية، الذي كان أطفال درعا قد كسروه مع كسر تماثيل الأسد وتمزيق صوره، وجاب سفيرهم الشوارع السورية طولًا وعرضًا، محاولًا إقناع “الثوار” أن أميركا مع حق الشعب السوري في الحرية والعدالة والديمقراطية، وما عليهم إلا الانتظار قليلًا؛ فهناك خطوط حمراء، إذا تجاوزها نظام الأسد سيدفع ثمنها غاليًا. وصدّق الثوار كلام السفير، كما صدّقوا وعود أصدقاء الشعب السوري، وتجاوز الأسد الخطوط الحمراء الأميركية والتركية والسعودية والقطرية، واستخدم الكيماوي، والقتل الجماعي والمجازر التي سيخجل منها التاريخ، ومع ذلك، كان الأميركي وغيره، يمسحون الخطوط القديمة ويرسمون خطوطًا جديدة، إلى أن اكتملت الصورة، وعاد عدد سكان سورية إلى ما كانوا عليه عام السبعين، كما “وَعَدنا” أنصار الأسد.

وفات الأميركيون والروس والإيرانيون وغيرهم، أن استقرارهم سيبقى قلقًا ما دام هناك سوري يحلم بالحرية،

وأن السوريين يتعلمون من دمائهم، وأن حريتهم مقبلة، طال الزمن أم قصر.




المصدر