‘منير شحود يكتب: في مقدمات المأساة السورية الراهنة’
27 أكتوبر، 2016
منير شحود
عندما استقلّت سورية عام 1946 كانت إرادة الفاعليات الوطنية قد اتفقت على العيش المشترك في وطن مازالت مؤسساته الدستورية، التي بنتها سلطات الانتداب، في طور التشكّل، وتُدار من قوى سياسية تقليدية. وبعد سلسلة من الانقلابات العسكرية، عاشت سورية بين عامي 1954 و1958 تجربةً ديمقراطية حية، إلى أن اجتاحتها موجتا المدّ القومي؛ الناصرية (1958) والبعثية (1963).
إنّ عدم قدرة البرجوازية الوطنية (من أهم المعبرين عنها في تلك الفترة عبد الرحمن الشهبندر وخالد العظم) على تمدين الريف وتحديثه لتسريع عملية التطور الرأسمالي وفتح أسواق جديدة، بسبب وقوعها بين سندان الإقطاع ومطرقة القوى الثورية الصاعدة، سمح للقوميين بالنفاذ إلى السلطة في سورية والقيام بالإصلاح الزراعي والتأميم، ولو بصورة ارتجالية، ما أكسبهم تأييد الأوساط الريفية التوّاقة إلى التخلص من المظالم الاجتماعية المتراكمة منذ العهد العثماني.
ومنذ وصوله إلى السلطة عام 1963 عشَّشت في حزب البعث العصبيات المختلفة، ثمّ تسلسلت عمليات الإقصاء؛ حتى وصلنا إلى حكم الفرد الواحد، وما رافقه من ترسيخ لنظام أمني شمولي متعدد الارتباطات والركائز في المجتمع السوري. وفي هذه الأثناء، تراجعت عملية التمدُّن، التي كانت تجري بصورةٍ بطيئة وطبيعية منذ بدايات القرن العشرين، وتحوّلت إلى حالة هجينة، مدينية – ريفية، فبدا وكأنّ الثقافتين المدينية والريفية تلاقتا في منتصف الطريق، وسدَّت كلّ منهما الطريق على الأخرى!
في بداية الثمانينات، على الأخصّ، وبنتيجة الصراع على السلطة (الصراع مع “الإخوان” ثم رفعت الأسد)، ضاقت حرية التعبير السياسية أو انعدمت، وحُطّم ما تبقّى من البنى الأهلية والمدنية، وحظرت جميع النشاطات السياسية، فتعايش السوريون تحت مظلّة القمع، مسلوبي الإرادة والتعبير، وصارت المناصب الرئيسة في أجهزة الدولة حكرًا على الموالين والمنافقين، بغض النظر عن كفاءاتهم.
وبغياب الشفافية والصحافة الحرة ورقابة المجتمع المدني على ممارسات أجهزة السلطة، تصاعدت عمليات الفساد والاحتكار مستظلَّةً بالولاءات والشعارات الخادعة التي لا تكاد تلامس الواقع، في الوقت الذي احتفظ فيه المجتمع الأهلي بموروثٍ ثقيل من الجهل وارتفاع نسبة الأميّة والولادات، وكمّ هائل من الأعراف والتقاليد، التي لا تساهم في تحرير طاقات الأفراد وتحقيق ذواتهم، في نمط من العلاقات يقوم على التّلقين والتنميط لا على التفكير المستقل. ساهم ذلك كلّه في تعزيز الاستبداد السياسي، الذي حمل في أحشائه جنين استبداد إسلامي، توافرت له بنية تحتية واسعة، متمثِّلةً بالعديد من المؤسسات كالجوامع والمعاهد الدينية، والتي بُنيت الآلاف منها في سبعينيات القرن الماضي، ذلك من ضمن سياسة التحالف المستمرة بين الدين والسياسة منذ العصر الأموي، ولكن بطفرة غير مسبوقة!
ومنذ عام 1970، أدى الخلاف حول المشاركة في السلطة إلى حدوث انقسامات في الأحزاب اليسارية المعارضة، حيث انضم بعضها إلى “الجبهة الوطنية التقدمية” بقيادة حزب البعث، في حين بقي بعضها الآخر في صفوف المعارضة.
منذئذٍ تمثّل النشاط المعارض بحزب “الإخوان المسلمين”، وبعض الأحزاب اليسارية. وفي حين اكتفى “الإخوان” باستغلال العواطف الدينية، لم تقم الأحزاب اليسارية باختبار صلاحية برامجها على أرض الواقع، كما كانت انتماءاتها العقائدية، في بعض الأحيان، مجرّد قشرة رقيقة حجبت الانتماءات القبْلية، من دون أن نغفل العامل الأهم المتمثل بعزل هذه الأحزاب عن جمهورها المفترض، كنتيجة للقمع والإقصاء.
لم يكن أي من هذين الفريقين السياسيين المعارضين، الإخواني واليساري، قادرًا على تشكيل رافعة وطنية، كما لم ينجم عن تحالفهما عام 1980 نتائج سياسية مهمة. ومن سخريات التاريخ أن تمَّت استعادة هذا التحالف بين الإخوان وبعض قوى إعلان دمشق (حزب الشعب الديمقراطي، على وجه الخصوص) بصورة أكثر مأسوية وعقمًا عند تشكيل “المجلس الوطني السوري”، في 2 تشرين الأول 2011!
حين بدأ العهد الجديد عام 2000، كان السوريون ما يزالون مخدَّرين بثلاثة عقود من الموات السياسي، يحدوهم الأمل في أن يثمر العهد الجديد عن بعض التجديد في المياه السورية الراكدة. لكنَّ التغييرات جاءت خلاف المتوقَّع والمأمول، ومنها اعتماد سياسة “اقتصاد السوق الاجتماعية”، كضرب من التحديث الهادف لخدمة أصحاب رؤوس الأموال المرتبطين بسياسات الفساد والاحتكار، مع أنّ تحديث الاقتصاد السوري كان -بالفعل- ضرورةً ملحّة للحاق بالمنظومات الاقتصادية الحديثة، وقد تأخر كثيرًا ليتلاءم ودور المنظومة الأمنية التي اعتمدت سياسة الجزرة والعصا، أو “العطاء والحرمان”.
استفاد أرباب الاقتصاد السوري الجدد من غياب الحريات السياسية والإعلامية؛ للدفع باتجاه انفتاحٍ اقتصادي يساعدهم في الحصول على الأرباح غير المحدودة؛ بالنتيجة، أُعيد توزيع السلطة والثروة في أوساط النُّخب الاقتصادية العليا، وبقيت فرص الهجرة والعمل في الخارج السبيل الأهم لتأمين عيشٍ كريم لمئات الآلاف من السوريين.
وضع ذلك قاعدة الاقتصاد السوري المؤلفة من الورش والأعمال الصغيرة في دائرة الخطر، وهي التي تمتَّعت -لسنوات عديدة- ببعض إجراءات الحماية الحكومية في مواجهة السلع الأجنبية الأكثر تطورًا والأرخص ثمنًا، بخاصة بعد اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، التي دخلت حيز التطبيق في عام 2007. ولم تعمل السياسات الحكومية على تحسين أوضاع العمل المتخلِّفة؛ لتتمكّن الصناعة المحلية والورش من الاندماج في الدورة الاقتصادية العالمية من خلال تحسين مواصفات السلع.
في هذه الأثناء، استمر النظام بإغلاق المنافذ كافة في وجه أي إصلاحات أو مطالب سياسية، واستنبط مريدوه اشتقاقات لغوية هوامية، مثل “المقاومة” و”الممانعة”؛ للتهرب من استحقاق الإصلاح السياسي.
وهكذا، على امتداد عقود عدة، كانت سورية مثل بحيرة راكدةٍ وراء سدٍّ مُحْكم، وقد حجب السكون الخادع كمًّا هائلا من التفاعلات والتخمُّرات التي كانت تحدث في أعماق البحيرة وتهدِّد بانفجارها، ما لم تُتَّخذ خطواتٌ سريعة؛ لتنفيس الاحتقان في محيطٍ يعجُّ بالتطرُّف الذي يجهِّز سواطيره الفكرية والمادية، مستغلًا المظالم التي راكمها القمع خلال العقود الماضية، لاستبدال الاستبداد السياسي بما هو أمرّ وأدهى، وإلحاق هزيمة حضارية بالشعب السوري وآماله في التحرُّر من كلّ استبداد.
وبسبب اعتماد الحل الأمني، علاوةً على التدخلات الإقليمية والأوضاع الدولية غير المواتية، تحوّلت إرادة التغيير التاريخية، التي اجترحها الثائرون السوريون عام 2011، إلى حالةٍ كامنة تنتظر انقشاع غبار المعارك، وتوافق المصالح الدولية؛ لتتجلّى كحقيقة تاريخية لا تُقهر
المصدر: جيرون
منير شحود يكتب: في مقدمات المأساة السورية الراهنة على ميكروسيريا.
ميكروسيريا –