on
أحمد مغربي يكتب: بوتين.. حيث لم يجرؤ القياصرة
أحمد مغربي
للمرّة الأولى في التاريخ، يحارب جيش روسي في المنطقة العربيّة. بل هو الجيش الروسي الأول الذي يحارب خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق!
قيل كلام كثير في وصف التدخل الروسي العسكري في سوريا، على ألسنة محللين وإعلاميين وسياسيين عرب. لكن الكلام لم يلامس ذلك المعطى البارز. ولهواة المقارنات السقيمة، خصوصاً الذين فار ولعهم فجأة بـ”اتفاقية سايكس- بيكو” منذ بداية آلام “الربيع العربي”، لم يكن الروس ضمن الجيوش التي دخلت أراضي الامبراطوريّة العثمانية المنهارة في تلك الحرب. وآنذاك، حارب الروس، تركيا، في القرم، قبيل الحرب العالميّة الأولى، لكنهم لم يدخلوا أراضي تركية، ما يعني أن التدخّل الروسي في سوريا يمكن أن يوصف بأنّه الأول تاريخيّاً في الشرق الأوسط أيضاً.
ولعل ذلك الملمح لم يكن غائباً عن ذهن مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، هنري كيسنجر، في مقالته الشهيرة التي نشرت بُعيد “عاصفة السوخوي”. وبذكاء خبير وأكاديمي متمرس، لاحظ كيسنجر أن تلك “العاصفة” هدمت الأساس الاستراتيجي الذي استند إليه الشرق الأوسط منذ العام 1974: حصريّة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، بمعنى أن كل قوّة تصعد فيه أو تدخل إليه كان يتوجب عليها الحصول على “موافقة” ما أميركيّة (كان كيسنجر من أبرز صُنّاع ذلك المشهدِ، وفق كلماته في ذلك المقال أيضاً).
حيث لم يجرؤ القياصرة والاشتراكيّون!
كيف تأتّى لفلاديمير بوتين أن يصعد إلى حيث لم يجرؤ القياصرة، أو ورثتهم الماركسيون في الاتحاد السوفياتي السابق، فيرسل جيشاً روسياً ليحارب في بلاد عربيّة؟ كيف نظّم بوتين جيشاً روسيّاً يحارب في المدى الدولي، ويتدخّل خارج حدود الاتحاد السوفياتي؟
الأرجح أنّ الإجابة متشعبّة. لعل أبرز ملامحها، التغيير الذي حدث في موقع أميركا عالميّاً ونقلها من القطب المسيطر وحده على النظام العالمي، إلى القوّة الكبرى الوحيدة التي تشكل القطب الأرجح في نظام عالمي متشابك يضمّ قوى أقل منها، لكنها قوىً وازنة تسعى إلى كسب موافقة/إقرار أميركي، يترجم إقراراً مماثلاً في النظام الدولي. تقدّم روسيا مثالاً بارزاً على تلك القوى الوازنة، الساعية إلى إقرار أميركا والنظام الدولي بها وبوزنها ومداها الاستراتيجي. وكذلك منذ بعض الوقت، لم تعد أميركا تمانع أن تقاسمها قوّة دولية فاعلة النفوذ، في الشرق الأوسط الذي استقلت عن نفطه أيضاً.
هناك أسئلة كثيرة عن أول جيش روسي يحارب في البلاد العربيّة، خصوصاً أنّه يبرز السؤال التالي: كيف تأتى لبوتين أن يصنع ذلك الجيش الروسي الذي اقتحم المدى الاستراتيجي الدولي من البوابة العربيّة، فحقق سبقاً مزدوجاً ضخماً؟
منذ أن أمسك بالسلطة في الكرملين، مطلع الألفيّة الثالثة، واجه بوتين معضلة الانهيار الكبير في الجيش الروسي/السوفياتي السابق، الذي توجّب “ترميمه” بسرعة مع توضّح عزوف حلف “الناتو” عن ضم روسيا إلى صفوفه. كان الانهيار ضخماً، بل أضخم عملية نزع سلاح سلمي في التاريخ. انخفضت ميزانية التسلح في الكرملين من 246 مليار دولار في العام 1988، إلى 14 مليار دولار في 1994. وكان الجيش السوفياتي الجبّار سابقاً، مهلهلاً وتقلّص عديدُه، من خمسة ملايين، إلى أقل من مليون جندي، برواتب فائقة التدني. وبين سقوط الاتحاد السوفياتي العام 1991، وبداية تحديث الجيش “البوتيني” في 2008، لم يشارك جيش الكرملين إلا في ضبط نزاعات ثانوية ضمن حدوده (جورجيا، مولدوفا، وطاجكستان- وكلها في تسعينات القرن العشرين. بل حسم الصراع الأهلي في الشيشان (1994)، ببقايا جيش الجبار السوفياتي السابق. وقفت روسيا مشلولة أمام العمل الاستراتيجي الأميركي الضخم في البوسنة والهرسك بتفكيك الاتحاد اليوغسلافي السابق (1999). ولم تحرّك ساكناً حيال الغزو الأميركي للعراق (2003).
جورجيا: نقطة تحوّل
منذ 2008، أعلن بوتين أنّه يعطي الأولويّة لاستعادة روسيا قوّتها العسكريّة. في تلك السنة، حقّق الجيش الروسي “إنجازاً” استراتيجيّاً بوقف تمدّد حلف الناتو في المجال الاستراتيجي الروسي المباشر (في الشرق، وفق تعبيرات شائعة)، ملحقاً الهزيمة بقوات الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي الموالي للغرب، وفارضاً هيمنة روسيا على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبيّة. لم يستطع “الناتو” حيال ذلك سوى… العقوبات الاقتصادية من أوروبا! في جورجيا، رسمت روسيا حدوداً حاسمة لتمدد “الناتو” شرقاً، ومنعته من ضمّ دولة سوفياتيّة سابقة كانت ميّالة للالتحاق بصفوف الغرب، وأكّدت سيطرتها على الأمدية الإقليمية لحدودها الجنوبيّة والغربيّة. باختصار، كانت جورجيا نقطة ولادة “جيش بوتين” الروسي! لكن ذلك الجيش لم يكن حديثاً فعليّاً، بل اضطر أحياناً إلى استخدام شبكات الخليوي المدنيّة في الاتصالات بين الضباط والجنود. وأوضحت جورجيا أيضاً، ضرورة إحداث قفزة تقنية في الجيش البوتيني. وتلبية لذلك الأمر، انخرطت روسيا في عملية تحديث ضخمة لجيشها، بل خصصت له أموالاً قُدّر بأنها ستبلغ ثلاثة أرباع التريليون دولار في 2020!
في العام 2014، تمكّن الجيش البوتيني من البروز كقوّة استراتيجيّة دوليّة. وفرض سيطرته بالقوة على شبه جزيرة القرم في أوكرانيا، بل أرسل مجموعات مقاتلة وأسلحة إلى منطقة “دونباس”، فأوقف مسعى حكومة كييف التي يساندها حلف الناتو لإنهاء تمرّد ميليشيات محليّة فيها. كانت تلك مواجهة اخرى مع حلف الناتو، مع ملاحظة أن ذلك جرى ضمن حدود الاتحاد السوفياتي السابق. ولأن أوكرانيا تقف على الحدود الجغرافيّة- السياسيّة التي تفصل و/أو تَصل أوروبا بآسيا، برزت روسيا مجدداً كقوة في تلك الـ”أوراسيا”، مع التذكير بأن جزءاً من “اللغز الروسي” يتمثّل في الهوية الملتبسة لروسيا بين كونها أوروبيّة أو آسيويّة!
“عاصفة السوخوي” وشهوة الشرق
زاد من غموض “اللغز”، أنّ الجيش الروسي في أوكرانيا اعتمد أسلوباً استراتيجيّاً جديداً، وُصِف بأنه “حرب هجينة”. صحيح أنه صار جيشاً دوليّاً قادراً على التدخل خارج حدود روسيا، وتجاوز نهائيّاً صورة الانهيار السوفياتي، لكن، في المقابل، أثبتت حرب أوكرانيا أنّ الجيش البوتيني ليس حديثاً بما يوازي الجيش الأميركي. ولجأ إلى المزج بين القتال التقليدي والاعتماد على الميليشيات المحليّة والتحريض السياسي المعتمد على الهويّات الإثنية، كي “يتوازن” نسبيّاً، مع حلف الناتو. الأهم من ذلك أنه نجح، رغم العقوبات التي ما زالت مؤرّقة. والأكثر أهميّة أن دولاً أوروبيّة كثيرة، أبرزها (للمفارقة) كانت بولندا الأكثر تمرداً على روسيا والسوفيات، صارت تسعى إلى ملاقاة بوتين وجيشه في منتصف الطريق، ما يعني ترجمة القوة العسكرية في النفوذ والاقتصاد.
عند تلك النقطة، صار ملموساً لدى قادة الكرملين أن “جيش بوتين” يستطيع كسب أمدية استراتيجيّة إقليميّة، طالما أنّه لا يتصادم مباشرة مع الناتو والجيش الأميركي و… المصالح الاستراتيجيّة الأساسيّة لبلاد “العم سام”. ومع صعود الحديث في واشنطن عن التحوّل في النظام الدولي وتبدل الأهمية الاستراتيجيّة للشرق الأوسط، وإمكان تقاسم نسبي للنفوذ فيه، انفتح المجال أمام بوتين ليحقّق ما لم يجرؤ عليه قياصرة روسيا الملكيّون والاشتراكيّون سويّة. وأُرسِل جيش بوتين ليخوض حربه الأولى في البلاد العربيّة والشرق الأوسط، مستعيداً بالقوة نفوذاً “قديماً”.
وعلى جبهة النفط، يتقدم بوتين إلى حيث لم يجرؤ أحد أيضاً. وتوصّل للمرّة الأولى، إلى اتفاق تاريخي مع “أوبك”، لمنع الاستمرار في انهيار أسعار النفط، وهو أمر حساس لدول تعتمد عليه. فهل يكون النفط جزءاً من “حرب هجينة” لبوتين لترسم حدود نفوذ روسي جديد في الشرق الأوسط؟ يحتاج هذا السؤال القلق إلى نقاش واسع.
المصدر: المدن
أحمد مغربي يكتب: بوتين.. حيث لم يجرؤ القياصرة على ميكروسيريا.
ميكروسيريا -
أخبار سوريا
ميكرو سيريا