المعرفة الممزوجة بالكرامة


رغدة حسن

إذا كان قدر المثقف أن يكون صوت من لا صوت له، فهذا لا يعني أن يصبح بديلًا عن أحد، لكن هذا يؤكد مسؤوليته التاريخية بأن يحفّز بأفكاره وكلماته الأصوات الخافتة والمدفونة والمترددة للظهور والتحدث؛ لا بل والصراخ بكل جسارة.

عليه -أيضًا- تقديم نصوص تزعزع المألوف وتقود إلى التغيير، كي تصيب قلب العالم الساكن بالدهشة، وتفكك الأوهام والخلاص من العجز في مواجهة الأزمات التي تحولت إلى مآزق خانقة.

غالبًا ما يوضع المثقف في مكانة من امتلك اليقين، ويُحاكم بناء على هذه الفكرة من قرائه ومتابعيه، وكأنه كائن خارق يمتلك قدرات توازي قدرات الآلهة القادمة من الأسطورة، وأدوات العرّافات في التنبؤ ومعرفة المجهول.

كيف؟

إن تسطيح المفاهيم والأفكار الذي سببه جنون ثقافة الاستهلاك -بآلياتها المحترفة والمبتكرة وأسواقها المتكاثرة كالفطريات- خلق جيلًا يقتات على تركة الأسلاف من معارف وإرث ثقافي، منسجمًا مع مذاق الوجبات الجاهزة والسريعة، المتاحة كثيرًا؛ قابلًا بما يُقدم له، عازفًا عن التفكير في محيطه، متكئًا على الجملة الشهيرة التي باتت مسوغة لدى الأغلبية: “هناك من يفكر- هناك من يهتم- هناك من هو مسؤول عن تقديم الحلول”.

تطالب هذه “الأغلبية” المثقف والمفكر باستخدام عصاه السحرية لاختراع حلول لمشكلات الكوكب؛ بدءًا من الاحتباس الحراري وانقراض الحيتان البيضاء، وصولًا إلى سوء خدمات شبكات الإنترنت، منشغلة -هذه الأغلبية- بهوس التنافس على الفوز بلعبة “عصبة الأساطير”League of Legends، المنتشرة كالطاعون، لتٌضاف إلى مشكلات العصر، وما يعانيه الجيل الشاب من الاكتئاب وأخواته (المخدرات -الانتحار-الفشل الدراسي -الفراغ).

ولعل الأسوأ من هذا أن غزو ثقافة الاستهلاك، واحتشاد دخان الأزمات والحروب الجهنمية في رئة الثقافة، أدى إلى ظهور نوع هزيل من الكتابة، رافقه نوع رديء من الصحافة –أيضًا- قامت بتسويقه، وخلقت له مناخات؛ لينمو ويكبر ويستفحل. وقد استنبت ظهور كليهما (الكتابة الهزيلة والصحافة الرديئة)، وجود المثقف المخاتل أو الهامشي والمحايد؛ ليصبح هذا الثالوث ظاهرة تجتاح نسغ الثقافة.

لماذا؟

يعود هذا إلى ظاهرة الاستلاب في واقع يعاني من الاستبداد المزمن، فالاستبداد -وبأي شكل تمظهر- يعمل على غربة الانسان عن عالمه؛ خضوعه وتبعيته أيديولوجيًا، استنزاف طاقته واستلابها، ليقبل بعد ذلك -وبشكل دينامي- ما يٌقدم له. فالتشيّؤ الذي يعلل استباحة وتسليع كل ما ينتجه الإنسان، كأنه قنبلة فراغية، تفرغ كل منتج من قيمته الفكرية، لتحقيق هدفها. والتبعية لسلطة ما -باختلاف أشكالها- (سياسية– دينية- اقتصادية) تجعل من المثقف بوقًا يزغرد لمقولات السلطة، كي تأسره وتحجّمه، فيصير بيدقًا يتحرك حسب رغباتها ويساعد في تحقيق مراميها. لذلك كانت الحرية أهم سمة، على المثقف أن يتصف ويتسلح بها، لأن الحرية فعل يدركه الوعي الفردي ويحققه الوعي الجمعي.

إلى أين؟

يقول ادوارد سعيد “إحدى مهمات المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات، التي تحدُّ كثيرًا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري، بإعادة تشكيل التقاليد وصياغة تاريخ مبسط ومنفتح”.

وعليه؛ فإن دور المثقف، هو إماطة اللثام عن هذه القيم وتوضيح ما شابها من شوائب دينية أو إيديولوجية، ومداومة نزع الاقنعة وتحطيم الاشكال النمطية -للرؤية والفكر- التي تغرقنا فيها وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، و”بناء حقول من التعايش بدلا من حقول المعارك” عبر اشراك المثقف الآخر؛ الآخر المنتمي لحضارات مختلفة، في الدفاع عن مبادئ إنسانية شاملة، وليست محصورة بأطر ضيقة، ودوائر تنتمي لفئة معينة. فالمثقفون –عمومًا- ينتمون إلى فئات وشرائح وطبقات اجتماعية وعوالم مختلفة، لكن ما يجمعهم هو كونهم «منتجي ثقافة» تتحدد وظيفتهم بالدور الريادي الذي يقومون به، في الدفاع عن حرية الفكر ونوع الثقافة التي ينتجونها، متسلحين بالشجاعة في العمل والمعرفة؛ الإقدام والجهد في تفكيك المفاهيم الحرية -السلام- الإرهاب –النضال… وكل ذلك بغرض الفوز بالحقيقة المفقودة، ليتقدم النص المفتوح على العالم؛ النص المشاكس.

إنها قيم من الضروري أن تكون على رأس أولويات المثقفين، وإن كانت هذه القيم (الحرية- حقوق الإنسان– الديمقراطية) قد خضعت للتشويه واستغلالها كشعارات في مراحل عديدة، حينًا في التجربة الشيوعية، وأخرى في الإمبريالية/ الاستعمارية، وثالثة على طاولات التشريح الفقهيّة.

ويؤكد إدوارد سعيد على حماية وإحباط محاولة تغييب الماضي، فمن الضروري فهمه لا بحسبان الماضي هو الثابت والمقدس، بل بعدّه كمّا معرفيًا (نظريًا وماديًا) يجب إخضاعه للفكر النقدي، في أسيقة فكرية تخدم مفاهيم القومية والهوية والوطنية.

يقول غرامشي “إن جميع الناس مفكرون”، ويضيف: “ولكن وظيفة المثقف أو المفكِّر في المجتمع لا يقوم بها كلُّ الناس”. ذلك أن المثقف وجد آلية وطريقة للعبور من السكون إلى الحركة، من الجمود إلى الفعل، من الموت إلى الحياة، من الرضوخ إلى التمرد، والأهم أنه وجد أفقًا خارج قالب المزدوجات: (الأبد – الأزل – البداية – النهاية…) لذلك يعدّ الفنان المستقل والمفكر المستقل والكاتب المستقل، من الشخصيات القليلة الباقية المؤهلة لمقاومة ومحاربة تنميط أشكال الحياة، ومواجهة العمى الجمعي المتمثل في التعصب السياسي والديني.

الثقافة هي المعرفة الممزوجة بالكرامة، فلو كانت الثقافة تعني المعرفة فحسب، لما اهتاجت السلطة، فماذا يهمها من سابلة الثقافة ورعاعها!؟ إنما الذين يصنعون الأزمة ويشكلون خطرًا على النظام، هم أولئك القادرون على التغير.




المصدر