“حياة هادئة في الفيترين” هنادي زرقة ترسم الجحيم السوري


هيفاء بيطار

غالبًا ما تُعبر الرواية عن واقع حياة الناس؛ لأن التعبير الشامل عن كل نواحي الحياة، والغوص في الماضي -أيضًا- يتطلب مساحة واسعة من القدرة على التحليل، والتبحر في فهم حياة الناس وآلامهم وآمالهم وأحوالهم، وهو ما تتسع له الرواية، مثل ثلاثية نجيب محفوظ –مثلًا- التي تُعدّ تأريخًا رائعًا لحقبة معينة في مصر. أما أن يتسع الشعر للتعبير عن الواقع، وخاصة واقع الجحيم السوري المُستمر منذ أكثر من ست سنوات، وأن تتمكن شاعرة، لم تغادر اللاذقية أبدًا؛ بل تعيش في قرية رائعة هي “القطيلبية” في ريف اللاذقية، من رسم الجحيم السوري، وما يعانيه كل سوري بالكلمات، فتلك قدرة مُدهشة فعلًا.

كتاب الشاعرة هنادي زرقة “حياة هادئة في الفيترين”، صادر عن “دار النهضة العربية”، بيروت 2016، وهو لا يتجاوز مئة وعشر صفحات، لم تقسمه الشاعرة إلى قصائد، ولم تضع عناوين لمقاطعها الشعرية المميزة. نصها الشعري أشبه بقصيدة واحدة مسكوبة ومكتوبة دفعة واحدة، لكن القارئ لا يستطيع ترك الكتاب؛ حتى إنهائه، لأن كتابتها أشبه بالموشور المتعدد الوجوه؛ حيث النظر في كل وجه يُريك جانبًا من الألم السوري.

كنت أشعر (أنا التي لم أغادر وطني الحبيب سورية إلا للضرورة) أن هنادي تُعبر عني تمامًا، كما تُعبر عن كل سوري، كلماتها أشبه بالحياكة، تُحيك الزمن السوري الدامي بكلماتها المدهشة البسيطة، التي يُمكن لطفل في العاشرة أن يفهم اللغة الواضحة والآسرة في الوقت نفسه لهنادي، ولا يُمكننا رَكن أي عبارة في شعرها جانبًا، إذ أن كل سطر في الكتاب يرسم لنا لوحة المعاناة السورية والجحيم السوري؛ حتى أنك لا تحتاج أن تحفظ مقطعًا شعريًا ليعطيك معنى متكاملًا لوصف المشهد السوري المؤلم.

يتميز شعر هنادي بأن كل سطر فيه يُمكنه أن يُعبر عن حالة بأكملها، وكل ما كتبته يحسه القارئ طالعًا من روحه، كما لو أن كل سوري فوض هنادي للكتابة عنه، ولا أبالغ إذا اعترفت أن ثمة عبارات قرأتها في شعر هنادي كنتُ قد كتبت -تقريبًا- ما يطابقها؛ لأن الألم السوري يوحد الناس؛ ولأن إبداعها المُوجع بصدقه يعبر عنا نحن السوريين المُروعين.

“أما من هزيمة جديدة؟ / أقولها كل صباح / وأنا ماضية إلى هزائم أخرى / أكتب لأنقذ أوهامي / فقط / ولا لشيء آخر / وهذه الأغاني الوطنية كلها / لم تخفف من شعورنا بالهزيمة / أنا مُتعبة يا الله / ولا وقت لدي للندم وطلب المغفرة”.

ولو نظرنا إلى حياتنا في سورية من أحد أوجه موشور هنادي، لشعرنا أن كلامها يطلع من قلب كل سوري، تقول في مقطع من ديوانها:

“مضى الجنود إلى الحرب

وانشغلت الأمهات بخياطة الأكفان

والآباء المُتقاعدون تسلحوا من جديد

بحفر القبور!”.

وتُكمل:

“أرتعش

مثل عشبة صغيرة

تسمع صوت جزازة العشب

وهي تقترب

لا أنتظر أحدًا

كل ما في الأمر

أنا وحيدة

وأتظاهر بالإنتظار

حتى أقتل الوقت

كما لو أن هذا الرصاص الطائش كله

لا يفلح في

قتله أيضًا!”.

ومن منّا نحن السوريين، والذين أطلقوا على مأساتنا (مأساة القرن)، لا توجعه تلك النُعيُّ اليومية الجديدة لشباب سورية الذين ماتوا موتًا عبثيًا، وزجوهم في حرب لم يختاروها؟ من منا لا يستيقظ كل يوم، ويقول بأسلوبه الذي عبرت عنه هنادي: “هو الخوف / سرطان ينتشر بسرعة الضوء / أرقبه / وأعض على شفتي السفلى ليسيل / دم الانتظار”.

جدارية الألم السوري

من منّا لا يشعر بالخذلان وببؤس الحياة السورية والنفاق في المبادئ والشعارات التي تربت عليها أجيال؛ حيث كانت حناجرنا تصدح بشعارات مُنافقة، يُطبق عكسها في الواقع، كل سوري يشعر بما عبرت عنه هنادي:

“أطيل التأمل في النعوات [النُعيّ] الجديدة / وبنظرة هازئة إلى السماء / أبحث عن معنى لهذا العبث كله/ الوطن خيمة أوتادها الريح / كنا نقف في الصف أرتالًا نحيي العلم / نرتل النشيد / وعيوننا مُعلقة على طائر / وسط السماء ولا يلتفت / يفرد جناحيه”.

وتتابع برشاقة آسرة:

“ثمة ثقب في روحي

أكبر وأخطر من ثقب الأوزون

فقط لو أنك تنتبه

هذه الصواريخ الكثيرة التي أطلقوها

كافية لثقوب عديدة في روح السماء”.

وأي وصف للإحباط السوري والإحساس بتخثر الحياة، وبأن الموت استوطن في سورية، ولم تعد حياتنا تشبة الحياة بشيء، فالموت اليومي -وعلى مدى سنوات- والبراميل المتفجرة التي تقتل المئات من السوريين كل يوم، والجرائم المروعة التي ترتكبها الجماعات المتطرفة؛ كل حياتنا في سورية لم تعد تشبه الحياة، ثمة وجع يفوق الوصف ويتحدى آلام النبي أيوب؛ يحسه كل سوري وتعبر عنه هنادي بصور عديدة:

“الذبابة دليلي إلى الحياة الصاخبة في الخارج / الهواء فسد ولا يحتمل شهقة رضيع / الحرب صارت وقتًا / وعادات ومراجعات للماضي / الحرب وقد تحولت إلى حياة بالمقلوب / أية حياة لا تتجه إلى المستقبل / بل ترجع إلى الماضي”.

وكما يشعر كل سوري تكتب هنادي: “كل يوم أمارس الخديعة / وأقنع نفسي أنني على قيد الحياة / حتى حين صوبوا سهامهم نحوي / كنتُ أبتسم وأقول / هذا السهم لا يقتل جثة”.

وفي مقطع آخر تكتب: “ضيقة أنت يا سورية / ضيقة / حتى أنني أرتطم بنفسي مرات كثيرة / في النهار الواحد / ولا أجد مكانًا أركن فيه ظلي”.

وحين تتحدث هنادي عن الحب يتجلى التحول الأليم للحب؛ حيث ارتشح فيه الألم والفقدان: “لن تموتي بطلقة قناص / لن يجزوا عنقك / الأصدقاء غادروا / والوحدة تسدد آخر طلقة إلى قلبك.

عد يا حبيبي / لأولد من ضلعك نطفة / تتلمس طريقها إليك”.

نادرًا ما قرأت نصًا شعريًا مسكوبًا دفعة واحدة، كما لو أنه جدارية الألم السوري والجحيم السوري، ونادرًا ما استطعت أن أُشبع حواسي وتذوقي للشعر بإنتقاء مجرد أسطر صغيرة (مجرد بضعة كلمات لكنها ترسم لوحة حياة)؛ أسطر منفردة لا تحتاج للمقطع الشعري كله.

هنادي زرقة كثفت الحياة التي لا تشبه الحياة بشيء في سورية، وكتبت نصًا رائعًا أشبه بشهادة عصر على المكان والزمان، والأهم روح الإنسان السوري المُروعة والمعذبة، ولم تترك تفصيلًا في حياة السوريين إلا وكانت مُخلصة له وكتبته. أي عبارة موجعة حين تقول: “الأمل عكاز أعمى”. أو حين تقول: “هذا الكون لم يعد يحتمل قسوة بهذا الجحيم”. وهي تعي أنها شاعرة، أي: فنانة الكلمات، تبدع منها حياة موازية لحياتنا:

“الشعراء كئيبون

تغار منهم الآلهة.

الآلهة هي نفسها الآلهة

أدير لها ظهري

وأراها أمامي في كل حين”.

الحياة هادئة في الفيترين“، قصيدة متكاملة أشبه بجدارية للألم السوري، نعم، لكن المُدهش والرائع أنك بعد أن تنتهي من قراءة شعر هنادي المرتشح بالألم والفقدان والإحساس بذبول الحياة وسطوة الموت، بعد كل تلك المشاهد الموجعة لحد الاختناق، من الجحيم السوري، فإن ثمة إشراقة رائعة تشع من روحك، وتشعر بنبض الحياة يتحدى كل أشكال الموت، تشعر أن الإبداع الحقيقي يحول الموت إلى حياة، وبأن بذرة الأمل تولد من تربة اليأس؛ تنتشي روحك وتمتلئ بهوى الحياة، كما لو أن كلمات هنادي وصورها أيقظت هوى الحياة عندنا، على الرغم من آلامنا المزمنة، ووحشية ما يجري على أرض سورية.

وهي تذكرني بالعبارة الرائعة التي قالها أندرية جيد: “غاية الحياة هي الفن”.

شعر هنادي: “مثل غيمة تنهض من قذيفة

لو كنت أعلم أن مزيدًا من الحزن ينتظرني

لاقتنصت فراشات الفرح العابرة كلها”.




المصدر