السوريون والتقسيم
30 أكتوبر، 2016
سالم الأخرس
تمضي السنوات السورية العجاف، مخلفة المزيد من الأسئلة الوجودية التي تنشد إجابات شافية ولا تحصد سوى الاجتهادات والتكهنات، لتثشكّل بمجملها فضاءً “ثقافيًا” عامًا، يستدعي التوقف عنده بحذر.
ترتبط مجمل الأسئلة (لماذا؟ وكيف؟ ومن؟ والى أين؟) بالعناصر الأساسية للحياة (الماء والهواء والنار والتراب). ولعل العناصر الثلاثة الأولى، تتعلّق بالراهن المعاش وما يشتقّ منه من توابع الحرب والقتل والتشريد والجوع والعطش والمرض والمذلة والخوف والقلق.. وكل ما يستدعي إلى الذهن صورة الجحيم لتستوطن العقل الباطن للفرد السوري، أما العنصر الرابع (التراب) فالأسئلة المتعلقة به تدور حول المستقبل؛ ذلك الحاضر بلغة الحياة والغائب بلغة الوقائع اليومية.
لا جديد بالقول أن الحالة المتوحشة التي يرزح تحتها السوريون، فرضت عليهم العودة الى “مغامرة العقل الأولى” للبحث مجددًا في عناصر الكون والحياة، وابتكار أبجديات جديدة. ومخارج لتسويات مستعصية أمام تحديات قاهرة مجبرين على مواجهتها. ورغم ذلك، ورغم كل المهازل والرذائل، استطاع السوريون مواجهة التحديات بحكمة الصبر، وحنكة النجاح في اختبار الإيمان, وبهاء الفوز بالخلاصين والكينونتين الصغرى والكبرى.
ضمن هذا الفضاء “الثقافي” العام، تتفاعل المناقشات والأسئلة المتعلقة بالعنصر الرابع أي (التراب) وإشكالية وحدة التراب السوري ومشاريع التقسيم، إذ تُنتج حالة الاستعصاء العسكري والسياسي مناخًا ملائمًا لتنامي الحديث عن تقسيم التراب السوري، ولا سيما بين النخب، ونظرًا لتنوع مواقع هذه النخب وتعدد اتجاهاتها، تأتي المناقشات غنية في تنوعها، عظيمة في دلالاتها، ثرية بتعدد مرجعياتها. والملاحظة الأوضح، أنّ فكرة التقسيم ليس لها مكان في وجدان الجميع كلّ الجميع، باستثناء الحالات الانفعالية النزقة عند البعض، المغرور بالعضلات والموهوم بحمل السلاح.
فالتقسيم كما يتحدث عنه السوريون من المحرمات، لاسيما في المناطق الحضرية، فكلما كانت البلدات والمدن أكبر وعدد السكان أكثر، كلما زاد رفض التقسيم وارتفعت حدته، وهذه حالة تستحقّ التوقّف عندها مليًا.
إلا أن اللافت هو التصورات التي يطرحها بعض المهتمّين بالشأن العام، ممن يرون في أنفسهم خبراء في علوم السياسة، فيُقدّمون أفكارهم بمنهجية الكرونولوجيا (تعيين التواريخ الدقيقة للأحداث وترتيبها وفق تسلسلها الزمني) ويستعرضون المرتكزات التالية:
1 – يعتبرون التصريحات التي تصدر عن كبار المسؤولين (الأمنيين خاصة) في العالم الغربي، حول فكرة تقسيم سورية، أنها مآل لا مناص منه، لأن هؤلاء الكبار هم صناع السياسة ومهندسي طرقها في العالم، والدليل الدامغ اتفاقية سايكس بيكو.
2 – يرون في الخطوط الجغرافية التي ترسمها المواجهات العسكرية، مشاريع خطوط التقسيم، ويقدّمون أمثلة أكثر من أن تُذكر، وإمامهم بذلك القاعدة العسكرية والسياسية القائلة بأن “الحدود ترسمها أقدم الجنود”.
3 – يستشهدون بخطاب وممارسات بعض الفصائل الكردية التي تتلقّى الدعم والمساندة من العديد من الدول دليلًا ملموسًا على الشروع بالتقسيم، والسلوك الميداني للنظام في التهجير وسياسية الأرض المحروقة للعديد من المناطق السورية، وترويج مصطلح “سورية المفيدة” البرهان الفعلي المُؤكد لسياسة التقسيم، وختام القول عندهم، أن معرفتهم ببنية النظام وشبكاته المعقدة وعقليته المغلقة وضيق مصالحة تدفعه أن يذهب بهذا الاتجاه، مُذكّرين بالمأثور الشعبي “إذا لم تستحِ فافعل ما شئت”.
الا أن الذي لما يلاحظه أصحاب تلك الرؤى والنظريات، هو:
أ – أن اتفاقية يالطة بعد الحرب العالمية الثانية، جعلت من إنشاء دول جديدة عملية معقدة جدًا إن لم تكن ممنوعة، وتجربتي يوغسلافيا والسودان دليل على شدة التعقيد، الذي رافق الموافقة على إنشاء “دولًا جديدة” فمثلًا لم يستطع الجنوبيين بالسودان إعطاء اسم محلي لدولتهم الجديدة رغم حماستهم لذلك، وفرضت عليهم الدول الكبرى إبقاء اسم السودان مذيلًا بكلمة “جنوب” لتحاشي تداعيات الموافقة على إنشاء دولة جديدة، فدولة “جنوب السودان” اسم يدلل على موقع جغرافي له خصوصية إثنية، ذو إدارة خاصة، كما أنه اسم متداول منذ زمن بعيد، فأصبحت منطقة أكبر من حكم ذاتي وأصغر من دولة مستقلة معترف بها.
ب – فكرة التقسيم تعني سياسيًا الاستمرار في الحروب في منطقة تطبيقها، وبتعبير أدق “سلام ما بعده سلام”. ونستعيره من الكاتب الأميركي دايفيد فرومكين، والذي هو عنوان كتابه عن ولادة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الاولى.
ج – لسياسة التقسيم ارتدادات إقليمية، أكبر من أن يتحملها الحوض الشامي والحوض الأناضولي, والتي بدورها قد تذهب بعيدًا عنهما باتجاه أوراسيا.
د – بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت الحقائق الكبرى والنتائج والفروقات بين الحوض الشامي وحوض الأناضول، إذ تم تقسيم الأخير وفق معاهدة “سيفر” بين فرنسا وبريطانيا العظمى واليونان وإيطاليا، فيما قسّم الحوض الشامي وفق اتفاقية “سايكس – بيكو” وملحقاتها، بين فرنسا وبريطانيا، مع فارق أن الاتراك أفشلوا مشروع تقسيم الأناضول عبر خوض حرب جديدة، ونجحوا بإنشاء دولة كبيرة قياسًا بالدول التي نشأت في بلاد الشام. وظهرت النتائج والفروقات بين دولة حديثة وكبيرة وموحدة سياسيًا، وبين دول صغيرة حديثة ومتعايشة، بالكاد تدير أزماتها وتضبط حدودها التي رسمت لها.
ه – فكرة التقسيم مبنية على رؤية وبنية عسكرية، لا تمتلك مقومات الحياة الاجتماعية الطبيعية، ولا تحقق نموًا اقتصاديًا وماليًا إلا لأمرائها، بل هي استنزاف المستنزف أصلًا. وسورية الآن تعيش في قلب هذه السياسة.
و – من أهمّ اسباب رخاوة الحوض الشامي كخاصرة، أنه قُسم، فما بالك بتقسيم المقسم؟ فما هو نوع هذه “الانظمة” التي ستحرس هذا المقسم المنقسم؟ وهل ستكون أكثر “كفاءة” من “أنظمة سايكس بيكو” في حفظ السلام الدولي؟.
ذ – هناك الكثير من القواعد الكبرى في الحياة السياسية، لا يصلح أن يكون الجنرالات فيها أصحاب القرار كما الحال الآن بسورية.
ح – فكرة التقسيم ترتكز أساسًا على عنصر “التراب”، وتتجاهل باقي عناصر الحياة “الماء والهواء والنار”، والتي هي عناصر الحركة والمتغيرات.
[sociallocker] [/sociallocker]