العرب يُقتلون، ويَقتلون..عرباً


دلال البزري

في ساحات القتل الجارية الآن، سوف تلاحظ من دون عناء بأن الذين يُقتلون، ويُشرَّدون، وتُدمَّر أحجارهم وأرزاقهم وعائلاتهم، إنما هم أناس ينطقون بالعربية، ينتمون إلى الأمة العربية، وتاريخهم هو التاريخ العربي، ليس أي تاريخ آخر.

والداخلون في مغامرة قتل العرب فريقان: غير عرب، من أميركيين وروس وأتراك وإيرانيون إسرائيليون. وفريق عربي، من دول عربية بعينها ضد خصومهم السياسيين، وأحزاب أو ميليشيات أو حشود، عربية الجذر والإنتماء، ولكن قرارها ليس عربياً. ميليشيا “حزب الله”، مثلاً، ليست مكوّنة من عناصر روسية أو إيرانية أو أميركية أو إسرائيلية؛ إنما أعضاؤها هم لبنانيون عرب، يقتلون السوريين، بأمر من الولي الفقيه الإيراني، كما لا يخْفون؛ ولكنهم أيضاً يُقتلون، وغالباً على يد عرباً مثلهم. كذلك الأمر بالنسبة للميليشيا العراقية، المؤتَمرة بالولي نفسه؛ حيث يخاف عرب الموصل أن تدخل ميليشيات “الحشد الشعبي”، العربية الهوية، لتقتلهم وتفظّع بهم. ومن ضمن هذه المجموعة أيضاً، يقتل “الجهاديون” العرب، بالإشتراك مع “جهاديين” آخرين، عرباً، مثلهم، يعاونهم رجال “الأممية الجهادية”… الأمر نفسه ينطبق على اليمن، الحوثيون العاملون بإمرة إيران والمدعومين منها، يقتلون عرباً أقحاحاً، عرباً منذ القدم. كذلك تفعل المجموعات العربية المؤتمرة بتركيا، أو بدول عربية أقل منها ثقلاً وقدرة، أو دول عربية، مثل السورية، التي تقتل مباشرة مواطنيها، العرب مثلها.

عربٌ يقتلون عرباً… والخلاصة البائنة، ان العرب لم يتوحّدوا يوماً كما يتوحّدون اليوم في توحّش حالهم، من مآسي موت وتهجير، وتدمير منجهي لكل ما راكموه خلال السنوات المئة الماضية. ومع ذلك، لا يبدو من لسانهم ولا من مواقفهم انهم يقتربون من إنتمائهم الواحد، بل يتفرّقون، يتنافرون، يكرهون بعضهم بعضاً، على أسس هي أبعد بسنوات ضوئية عن وحدتهم الموضوعية، التي لا يعونها، أم أنهم نسوها.

خذْ ما كنا نسميه “الحلقة القُطرية”، أي الإنتماء إلى الدول التي تتشكل منها الأمة العربية: سوريا، العراق، ليبيا، اليمن، فلسطين، لبنان… داخل هذه الحلقة أصلاً، التطلع الواحد مفقود. ليس التطلع الإنصهاري، أو القصري؛ إنما كراهيات تقسيمية، تجهز على “الحلقة ” الصغرى قومياً التي يمكن الإنطلاق منها لبناء هوية عربية جامعة، غير شقية. فعندما ينقضّ عرب وغير عرب على تلك الجموع التي تشكّل الشعب العربي، فهذا يعني بأن الهوية العربية حزينة محزنة، لأنها غائبة تماماً، وساطعة تماماً أيضاً.

          الكرد مثلاً، مع انهم ضحية العرب وغير العرب، ومع انهم يقاتلون اليوم، ويتعرّضون للموت، إلا ان هويتهم، بالمقارنة مع الهوية العربية، هي هوية سعيدة. لأنهم استعادوها، معنوياً. سمحت لهم تقلّبات التاريخ أن يرفعوها بوجه ظالميهم من عرب وأتراك، وغداً إيرانيين. انهم يبدون وكأن مستقبلاً ما يرتسم في أفقهم، وان فرصة هذا الإرتسام راجحة. وقد يكون دخل من ضمن حساباتهم المعلنة وغير المعلنة انه حان وقت النيل من هذا المستقبل بالتضامن الكردي العابر للأوطان المزيفة التي حصرهم فيها حكامهم غير الأكراد.

والمقارنة مفيدة: تلقي شيئاً من الضوء على معنى أن يكون العرب، في أشد مراحلهم التاريخية مظلومية، من جهة، وفي أشد لحظات تغييبهم للهوية القومية، وغربتهم عنها، من جهة أخرى. والفرق بين الغرْبة والتغييب هو فرق في الوعي. من هنا السؤال: هل يعي العرب وسط كوارثهم الوطنية والقومية، وسط توحّدهم في تلقي هذه الكوارث، هل يعون هذا الغياب لعنصر توحّدهم الكارثي هذا؟ فيكونوا مسؤولين عنه، وهم في هذه الحالة، “يغيّبون” قصداً؟ أم ان الأمر هو بالعكس، أي انهم غير قادرين على النظر إلى عنصر توحّدهم، بعدما أصابهم الموت والتشرّد بالعمى، بعدما وضع الإثنان على صدورهم غشاء سميكاً من الكراهية لأقرب المقرَّبين، فيكونوا في حالة من الغرْبة عن أنفسهم؟

          أعلم ان “الزمن” ليس عروبياً، وان أيام عبد الناصر، أو النهضويين العروبيين، أو الأحزاب “القومية” التي حكمت… كلهم خارج روح العصر؛ وكلٌ لسبب مختلف عن الآخر. وهذا ما يطرح على الهوية العربية سؤالاً: ألا يستطيع العرب أن يكونوا عرباً إلا في الحالات الضامنة للإنتصار؟ أو في تلك التي يكونوا فيها موعودين بالإنتصار؟ ألا يستطيعون أن يجتمعوا حول وحدة مأساتهم، ليستنتجوا بأن الحرب الراهنة تستهدفهم بالذات، ليس بالضرورة كمؤامرة كونية، إنما بسبب كونهم أصحاب جاذبية خاصة، بخصورهم الرخوة، وشرودهم عن العصر… تلك الفراغات الرحبة، التي تثير لُعاب الضباع المترصّدة لكل فاشل طائش، يمشي فوق هذه الأرض؟

“المدن”