لوحات الحرب.. فصول من البياض والشغب

30 تشرين الأول (أكتوبر)، 2016
6 minutes

حسين جرود

“البطولة بالنسبة إليّ هي انتصار فرديّ مطلَق، يبدأ بالخوف، وينتهي بانتهائه، الخوف يخلق البطولة، ليس بطلًا من لا يخاف، هو مجرد وحشٍ لا أكثر، والوحوش لا تستمتع بوحشيَّتها عادة!”

“رامي العاشق” في مجموعته الأخيرة: “مذ لم أمت” لا يبحث عن البطل التراجيدي، ولا يستخدم كلمات نصر، وانكسار. إنه يعيش، ويحكي، ويشاغب، ويتوجع، هناك شيء سيبقى يصارع ذاته، ولن يغيب عن ساحة التاريخ ومداره.

جدلية وشعر

اللجوء طفلٌ يتيم تبنَّته الحرب، نهر من فطرية الروح والبراءة الأولى، حلم يوقظك على لوحة بيضاء مائجة، يعيدك إلى عالم الطيبة والهشاشة والألفة، ويسرقك من ذكرياتك، ويعيدك للطفولة على حطام حياة أخرى، لتجلس وحيدًا، وتأنسه.

يبتسم للغرباء القادمين إليه، وقلبه منقبض، فعيونه الحائرة رأت ما يكفي، وما زال يحمل علبة ألوانه ليشارك غيره بداية لوحة من حب، وحياة، واكتشاف في لحظة ميلاد تتكرّر، وتنشطر كأن التغرُّب أصلٌ، والبحث عن أمان قلقٌ لا ينتهي عند الإنسان.

رامي العاشق يخوض مغامرة الكتابة، ويتنشَّق حرية هواء الإبداع، وهو إذ يقدم شهادة عن مأساة لا زال يبحث عن الحياة وأسرارها، ويلاطم أمواجها بجنونه المطبوع بشخصيته، وما مر به ظروف:

“الحرب رَحْبة، أوسَع أُفقيًا، أعلَى، وأقدَم من السلم، والقتل سَبَق، وربما كان اللجوء قبلها، ثم ارتبط بها كطفلٍ يتعلّق بثوب أمه بيد، وبالأخرى يلوّح لمن لا يعرفه”.

يبدأ رامي العاشق نصَّه الثاني بهذا الكم من الترادف، والطباق، والجناس، ليتحدث عن جدلية اللاجئ، والآخر، كأنه يحيي “أبا تمَّام”، فهو قادر على جلب سحر الشعر إلى النثر مستفيدًا من ثقافته، ومطالعاته الواسعة في الشعر العربي. يستخدم تقنيات قديمة كلما احتاج لها لتخدم الفكرة، ويطوِّر رموزًا من الشعر في سياق النثر. لكن، هل كان قادرًا على تحرير النثر من الشعر.

قسوة الاختزال

النصّ الأول لا يجني منه القارئ إلا التعذيب، والتشويق؛ يأخذك بجملتين قصيرتين الى الحدود، وترى وجوه الهاربين، وحقائبهم، فإذ به يأخذك إلى الحرب، لتشاهد تساقط البراميل، ليتقافز بين السنوات، والأحوال التي مرت عليها البلاد مصوِّرًا السجن بجملة، وقمع الحريات بجملة، والحياة قبل (1963) بجملة أخيرة: “قبل (البعث) بأيام كانت الحياة أجمل”، وهي الجملة التي أنقذت النص، وقدَّمت سبب كل هذا التشويه.

ربما لو توسَّع في هذا النص الغني، المليء بالجمل الموحية، المكثَّفة، وسار خلف كل صورة بعضًا من الوقت والصبر، لرسم اللوحة بشكل أغنى، وأصبح مقدمة وافية للكتاب تسهِّل على القارئ غير المطلِّع معرفة ما يجري؛ فهذا الكتاب قد يقرأ بعد سنوات من الحرب، وقد يقرأه الآن أجانب ومغتربون.

بعض هذه الأبواب التي فتحها النص الأول لم تُغلَقْ إلا في النصوص الأخيرة من الكتاب، وكلما اقترب الكاتب من النثر، والتزم بفن من فنونه، كان عمله أكمل، وأبعد أثرًا، فكتب القصة، وروى الأسطورة؛ أسطورة الطفل “عمرو” الذي يشيب ويهرم، في “الهدية التي قتلتنا جميعًا” وكذلك أسطورة “روجيندا” و”بروسك” في “المقاتلة العارية من ضفائرها”.

الإعلام والأدب

هناك نقطة لا بد من ذكرها، وهي أن جميع نصوص الكتاب نشرت في جرائد ومواقع إلكترونية، حيث سيرى القارئ بسهولة أن بعض المواقع تملك حرية أكبر، فيما كانت مشكلة المواقع الأخرى أنها تفرض على النص الأدبي أن يكون متعلقًا بالحرب، أو بنقد النظام الحاكم، ولا شك أن هذا التأطير رجعي ومسيء.

لم توقع هذه النقطة الكاتب في المباشرة، فلم يقلَّد نصوصًا كثيرة انتشرت مؤخرًا عن السخرية من “إكسسوارات” النظام من طلائع، وأمن، ومسيرات، والاكتفاء بهذه النقطة الدعائية لضمان نشر النص، لكنها جعلته يستخدم الرمزية الغائمة؛ فالحديث عن مأساة دامت عقودًا، في نص أدبي من صفحة أو اثنتين، سيقرأه متصفح على الإنترنت، قد تكون أثرت على الشكل، والحجم، والمفردات، فاضطر لاستخدام الرمز، والصور المتلاحقة، وإذا كان هذا قد أضاع بعض المعنى -كما ذكرنا في حالة النص الأول- فتلك ليست قاعدة، فرمز السواد كان ركيزة أساسية لنص آخر.

غنى وتنوع

توغَّل الكاتب في المجتمع، ورصد تقلباته، وتحدث عن ضحايا السياسة، والاستبداد، والقمع، والتهجير، وفرض الإقامة الجبرية، وسلب الحقوق، وروى تاريخ مخيم اليرموك، وكتب قصصًا من الحرب السورية، وأغنى الأسطورة عندما غناها، وأخرج الرغبات المكبوتة في نص ساحر الأُسلوب، والعنوان: “الذين قتلتهم حتى الآن”.

حلَّق أيضًا بآفاق الحب، وأسبغ حالة شعرية على فضاء النص النثري، ليجمع في هذه عوالم زرقاء مبتكرة ما بين شفافية المشاعر، وحيوية الحياة في قصائد حب عديدة: “بائع الحب وسريره”، و “لا أريد أن أقع في حبها”، وغيرها.

فيما سادت حالة شعرية صاخبة تمزِّق الكلمات، وتخلق الصور، في نصوص: “اهجر بيتك واصنع غيره”، و “مذ لم أمت”، ليقدم كتابًا متنوع النصوص غنيّ المضمون يشوِّقك لطلب المزيد، وليس غريبًا أن يستفيد فيه “رامي” الشاعر من الشعر تراثًا، وتجربةً، وعشقًا.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]