وسام الركام من الدرجة الأولى

30 أكتوبر، 2016

غسان الجباعي

طلب مني صديق عتيق أن أكتب نصًا ساخرًا لإحدى المجلات الفكاهية. هكذا بلا مقدمات ولا مؤخرات! لم يقل لي مِمن أو ضد من سأسخر، ولصالح أي جهة! لم يحدد الموضوع أو الغاية أو المناسبة! فهل كان يسخر مني بدوره! أم يعتمد على ذكائي وسرعة بديهتي السلحفاتية في فهم وتمييز الساخر عن المسخور!؟ أم أراد ببساطة أن يوفر لي فرصة عمل!

إن كنت تظن صديقي أن السخرية هي “أفضل طريقة للبكاء المحترم” فأنت محق، أما إن كنت تجد أن لدي القدرة على الضحك والإضحاك من خلال دموعي، إلى ما لا نهاية، فأنت محقوق! من جهتي، وفي كل الأحوال، وضعت طلبك جانبًا ولم ألتفت إليه، ليس لأني كنت غارقًا في الحزن أو فاقدًا للأمل أو متعطّلًا عن العمل أو عاتبًا أو غاضبًا أو مستعدًا للسخرية من السخرية ذاتها، أو حتى السخرية من السماء جل جلالها، بل لأني كنت مشغولًا بكتابة مسلسل تاريخي جهم -من ثلاثين حلقة طبعًا- تم تكليفي بكتابته؛ عن “بدعة” الإرهاب والإرهابيين في “دولتنا” السَنية وحضارتنا العربية والإسلامية، لعرضه في شهر رمضان. ووجدتها فرصة لا بد لي من اهتبالها للمشاركة في هذه الحملة الكونية الجوية “الارتجاجية” على الإرهاب، بمسلسل بري مجوقل، من باب الحرص الوطني والقومي والتضامن الأممي؛ ثم إن مشاركتي لن تكون بواسطة الطائرات أو الدبابات والصواريخ الغبية، بل بواسطة القلم والمحّايات الذكية.

وحقيقة الأمر يا صديقي -إذا بقي ثمة أمر حقيقي- هي أنني أخجل أن أبوح لك بخيانتي الشخصية للشعب السوري وثورته، دون علمك؛ فقد عاهدت نفسي وعاهدتك -منذ بدء عصر الحرية والكرامة- ألاّ أخون بلدي ومعتقدي، وأن أهجر كتابة المسلسلات التافهة، وأتفرغ لرصد القصف والدمار ومآسي الناس. وأن أكتب القصص والروايات والمقالات والأشعار، عن أحلام السوريين القتلى والمعتقلين والنازحين والمحاصرين والمشردين والجوعى والمخطوفين والمفقودين. وأن أكون شاهدًا على جرائم عصري أو أكون شهيدًا. لكني وبعد مضي أربع سنوات ونيف كدت أموت من الجوع والذل، وأتحول مع كتاباتي إلى نازح في منطقة آمنة. فقلت لماذا لا أساهم أنا أيضًا، في محاربة الإرهاب؛ كما يفعل النظام الروسي والأمريكي والإيراني والتركي والعراقي والمصري والسوري وغيره من أنظمة الأرض والأمم!؟

قاومت ذلك، صدقني، لكن المبلغ الذي عرضته عليّ شركة إنتاج خليجية -وهي تزاحم أخواتها في مكافحة الإرهاب- كان مغريًا لدرجة لا تصدق: 60 ألف دولار أمريكي، خلال ستة أشهر فقط. أي ما يعادل 600 قصة قصيرة وقصيدة ومقال رأي وهموم ثقافية طويلة وعريضة…

وقد وافقت على الكتابة نكاية بالمجلات والدوريات الورقية والإلكترونية، المعارضة قبل الموالية، ومواقع التواصل الاجتماعي والثقافي، سواء “المأجورة” منها أو المستأجرة، وسواء كانت تمتك أسلحة نوعية مضادة للبراميل، أو لا تمتك غير القليل من مضادات الدروع وذخيرة رشاشات الدوشكا والبنادق الفردية، منتظرة الفرج الذي لا يأتي، من أصدقاء سورية “الخالصين”!

كما وافقت أن يكون حسن الصبّاح “الشيعي”، -صاحب فرقة الحشاشين ودولة القلاع والخناجر، وباني أول جنة افتراضية لأتباعه هو الأب الروحي للإرهاب في الإسلام، لم يسبقه إليه أحد، لا طغرلبك “السُّني” مؤسس الدولة السلجوقية، (الذي أرهب حتى خليفة بغداد القائم بأمر الله، بحجة حمايته من الباطنية، والذي تزوج ابنته الطفلة “سيدة” عنوة، كما أخذ عاصمة العباسيين –بغداد- عنوة) ولا أولئك “الصحابة” الذين قتلوا -غدرًا- ثلاثةً من الخلفاء الراشدين وبالخناجر، أو ذلك الخليفة يزيد بن معاوية الذي أمر بجزّ رأس حفيد الرسول، الحسين بن علي، وذبح كل أفراد أسرته من النساء والأطفال في مجزرة بشعة، ولا الحجاج بن يوسف “المستبد العادل” أو قاتل الحلاج ومهيار الدمشقي والنسيمي وابن المقفع والسهروردي الشهيد؛ وحتى المتنبي وغيره الكثير الكثير من الشعراء والعلماء والفلاسفة الذين أحُرقت كتبهم أو قتلوا على أيدي الطغاة العرب المسلمين وأمراء المؤمنين وغير المؤمنين.

لقد أطلق المسلمون على الاحتلال اسم الفتح، كما أطلق النصارى على احتلالهم اسم الاستعمار، فأخذوا البلدان تحت راية الدين الصحيح ومكارم الأخلاق، كما أخذها “النصارى” تحت راية المسيح والمحبة والسلام، لكنهم أقاموا محاكم التفتيش وحكموا شعوبهم بالحديد والنار، متهمين خصومهم -أيضًا- بالكفر والزندقة وسوء الطوية والهرطقة، وقتلوا –بدورهم- العلماء والمفكرين وحرقوا وذبحوا ودمروا وسحقوا، واستحقوا بجدارة “وسام الركام” من الدرجة الممتازة، تمامًا كما يفعل اليوم حماة الديار وحماة مجلس الأمن والدمار.

هل يحق لعمر بن الخطاب المسلم السني أن يسمي الاحتلال فتحًا، ولا يحق ذلك مثلًا لنابليون الكاثوليكي أو بوتن البروتستانتي أو الولي الفقيه الشيعي، أو تيودور هرتزل اليهودي، أو خادم الحرمين السعودي، أو أردوغان العثماني، أو باني سورية الحديثة، القومي المقاوم للإمبريالية والصهيونية، الذي تقف معه حثالة جميع الطوائف والأعراق والأحزاب!؟ ألا يحق لهؤلاء جميعًا أن يقتلوا شعبي ويحتلوا بلدي ويدمروها بذريعة الإرهاب، وأن ينالوا -بعد ذلك طبعًا- وسام الركام من الدرجة الممتازة!؟

يبدو أني قد شطحت كما يشطح غيري من الطائفيين اليوم، وأخذتني المذهبية حيث لا أريد! فما علاقتي أنا بالشيعة والسنة واليهود والنصارى؛ وأنا لا أؤمن إلا برب واحد ودين واحد هو دين المحبة والمساواة والعدل!؟ ما أردت الاعتراف به -يا صديقي- هو أني شاركت -أنا أيضًا- وعلى قدر لجاجتي وعزمي، بمحاربة الإرهاب. وكنت مشغولًا عن سخرية البشر بسخرية القدر. فأرجو أن تقبل اعتذاري الحزين. آمين.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]