أجيال دمرتها الدكتاتورية وتبحث عن غدها
1 نوفمبر، 2016
صفاء مهنا
لم يكن مفاجئًا شعار شبيحة النظام “الأسد أو نحرق البلد”، الذي أطلقوه منذ بداية الثورة في آذار/ مارس من العام 2011، فمعظم السوريين كان يتوقع أن ردة فعل النظام على الحراك السلمي الذي قاموا به، مطالبين بالحرية والكرامة، سيكون عنيفًا جدًا، على الرغم من أنه جاء حقيقة أعنف بكثير مما كانت عليه تلك التوقعات.
النظام الذي وضع سورية -كاملة- بشعبها وخيرها وحجرها على كفة الميزان، مقابل كرسي الحكم، وكان يثقّل كرسيه بالأوزان تدريجيًا بحنكة ودهاء منذ الأسد الأب، هو نفسه النظام الذي رمى -في عهد الأسد الابن- الأوزان من العيار الثقيل دفعة واحدة في كفة كرسيه، التي لطالما رجحت لديه على سورية، وبدأ باستنزافها وخيراتها منذ أكثر من خمسين سنة، وهو نفسه الذي بدأ تدمير سورية بدءًا من العملية التعليمية ومن مراحلها الأولى، فما كان إحراق البلد -خلال حربه على الشعب- مستهجنًا، ولم يكن إلا الضربة التي يحسبها قاضية للبلد ومن نادى بنهضتها ورفعتها.
استهدف النظام المدارس بأسلحته ونيرانه منذ البداية، وربما جاء ذلك انتقامًا من الأطفال الذين كتبوا شعارات مناهضة له على جدران المدارس، إضافة إلى سياسته القديمة في تحطيم العملية التعليمية، ولم يأبه لمصير الطلاب الذين كان يطلق عليهم في شعاراته أنهم جيل الغد، ولا لمصير مدرسيهم “بناة الأجيال”، لكنه بدون أدنى شك، حافظ على مدرسة الشعارات تلك التي بناها من كرتون، ومازال يغالي في تدعيمها، ولا أعتقد أن السوريين لا يتذكرون كيف هُجّر أهالي مدينة جسر الشغور في حزيران/ يونيو من العام 2011، وكان طلاب الصف الثالث الثانوي يقدمون الامتحان، بل بعد تقديم المادة الأولى من الامتحان، أعلن النظام الحرب على المدينة، واضطر أهلها للرحيل واللجوء إلى تركيا.
جيل كامل من الطلاب لحقه الأذى وخسر سنوات من مسيرته الدراسية، إن لم يكن خسرها بأكملها، بدءًا من التلاميذ الذين كان من المفترض أن يدخلوا المرحلة الابتدائية، وكانوا بعمر ست السنوات، إلى أولئك الذين كانوا على أعتاب التخرج من الجامعات.
فإذا نظرنا إلى أولئك الأطفال تحت سن العاشرة، والذين استبيحت مدنهم وقراهم ودمرت مدارسهم، فمن سلم من القصف، ولم يبق جثة تحت أنقاض المدرسة، ولجأ خارج البلد، فقد مرت عليه سنوات قبل أن يعود إلى مدرسة أو يتابع تعليمه؛ ففي تركيا وباقي دول الجوار نجد كثيرًا من الأطفال الذين بلغوا الاثني عشر عامًا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فمن كان منهم في عام 2011، في الثامنة من العمر، أصبح في عام 2016 في الثالثة عشرة، وقد مرت تلك السنوات الخمس، دون أن يدخل مدرسة أو يخضع لأي عملية تعليمية، بل على العكس، ربما الفقر والعوز جعل الشارع مأوىً له، تارة متسولًا وتارة أخرى عاملًا بسيطًا لا يكسب بضع ليرات في اليوم، وهذا الجيل ربما هو الأكثر حساسية، خاصة لدى الفتيات اللاتي أصبحن -من الناحية الشكلية- بحجم يعيقهّن من الدخول إلى صف، ومتابعة الدراسة مع طفلات صغيرات، ليبقين فريسة الجهل والأمية.
من كان أكثر حظًا منهم، وكان في مرحلة أعلى وقد كسر أميته، أو اجتاز مرحلة التعليم الأساسي، فقد اصطدم بالعائق المادي، والذي بسببه قذف العديد من الفتيان إلى سوق العمل؛ لانخفاض أجورهم مقارنة بآبائهم، كذلك لعدم قدرة المدارس السورية التي أُحدثت في تركيا على استقطاب كل الطلاب ممن يتقدمون للتسجيل فيها، إضافة إلى عقبة الحصول على الشهادة والتي ظلت لسنوات عدة غير مستقرة على منهاج معتمد، بل كان العديد منها رهينًا لمصدر التمويل والكادر المشرف الذي كان قبل الثورة بعيدًا كل البعد عن الوظيفة التعليمية والتربوية.
لم تقتصر الخسائر في هذا المنحى على تلك الشريحة العمرية من الطلاب، فقد لاقى الطلاب الحاصلون على الشهادة الثانوية في المدارس السورية، أو الذين كانوا في الجامعات والمعاهد، وتعرضوا لخطر النظام وعناصر أمنه معاناة أخرى، حيث اضطروا لترك كلياتهم ودراستهم ومغادرة البلد، فلا استطاعوا الحصول على الشهادة في الداخل، ولا تمكنوا من متابعة الدراسة في الخارج، خاصة أن كثيرًا منهم لم يتزود بالأوراق اللازمة لإثبات حالته الدراسية أو الاختصاص الذي سيستمر فيه، وبذلك نجد معظم الطلاب سيبدؤون من جديد باختصاص آخر، إن تمكنوا من الحصول على فرصة الدراسة في جامعة في تلك الدول التي وصلوا إليها، فيما أقرانهم قد أصبحوا في سوق العمل، يباشرون حياتهم المهنية والعملية.
من جانب آخر، فإن معاناة أطفال المخيمات مضاعفة، فهم يحتاجون قبل متابعة التعليم عناية نفسية واجتماعية؛ بسبب ما لاقوه -خلال رحلة العذاب- التي بدأت منذ خروجهم من ديارهم ونجاتهم من موت محتم، حتى وصولهم إلى المخيم والأوضاع السيئة فيه التي يدركها الجميع.
أما في المدارس الموجودة في مناطق سيطرة النظام، فقد كانت المعاناة في التضخم بأعداد الطلاب؛ بسبب وفود كثير من النازحين من المناطق المتضررة إليها، وأصبحت الصفوف التي كانت أصلًا قبل الثورة تعج بأكثر من أربعين طالبًا، تستوعب أكثر -الآن- من هذا العدد في ظل الأوضاع الراهنة، إضافة إلى أن الكادر التعليمي الذي أصبح العبء على كاهله أكبر، ما يُتوقع انعكاسه على المسيرة التعليمية في تلك المناطق.
فالنظام الذي عمل على تأطير وأدلجة التعليم في كل مراحله، وتدجين الطلاب بداية من طلائع البعث؛ حتى المرحلة الجامعية، حيث اتحاد الطلبة، فضلًا عن الاشتراط على المدرسين والمعلمين الانتساب إلى حزب البعث؛ ليتمكنوا من مزاولة مهنة التدريس، بل حيّد المدرسين الذين كان لهم نشاط سياسي؛ حتى لا يؤثرون في الطلاب؛ ليبقوا في قبضته وتحت سطوته وبرامجه، هذا النظام كان يقصد تخريب العقول وتحطيم الإبداع والمبدعين؛ حتى نشأ جيل بأكمله غير معني بأي حدث، وربما يخال المرء أن السوريين كانوا لا يجيدون الثقافة والنقاش في أي مسألة، حتى جاءت الثورة وكسرت تلك القيود؛ ولأن البلد لا تقارن -في الحالة الطبيعية- بكرسي الحكم، ولا بنظام، مهما بلغ من جبروت، ستنهض سورية بأبنائها، وسيستعيد الجيل الحالي ما عمد النظام على تخريبه وتدميره أخيرًا، لكن ذلك سيتطلب المزيد من الدعم الصادق من كل الجهات المعنية المحلية أولًا، ثم الدولية. ولا شك في أن الاهتمام بالعملية التعليمية من مقومات النهوض في أي بلد، فكيف إن تعرض لكارثة كما مر على سورية، وإن غنى سورية بالكفاءات قد يشكل أساسًا جيدًا، يمكن أن يختصر الزمن إذا ما لاقت العملية التعليمية -في المستقبل- إحاطة واهتمامًا ملائمين.
[sociallocker] [/sociallocker]