إنتاج السلطة ومرجعيتها – وجهة نظر وضعية


سمير سعيفان

حضور القضية:

تبقى مسألة إنتاج السلطة ومرجعيتها المسألة الرئيسة الأهم على الإطلاق في الحياة العامة لأي بلد وفي أي عصر؛ لأنها تشكل المفرق الذي يمكن ان يقود المجتمع والبلاد في طرق مختلفة، ويمكن أن يُقسم المجتمع إلى جماعات متناحرة متصادمة أو أن ينظمها في مسار تستطيع أن تتعايش معًا، وتنظم تنافسها لما فيه خيرها مجتمعة.

السبب بسيط، وهو أن كل سلطة تقوم على الغلبة، وكل مجتمع يتكون من فئات ومجموعات وجماعات لها مصالح متنافسة يمكن أن تتحول إلى متعارضة ومتناقضة، ويتحول التنافس إلى صراع عندما تتوازن قوى المجموعات، أو عندما تنمو قوة معارضة إلى درجة تشعر معها أنها تستطيع أن تنهض مطالبة بالسلطة، دون أن يكون هناك قواعد تضبط التنافس في الإطار السلمي بضوابط صارمة.

أيًا كانت الطريقة التي يصل بها الحاكم إلى السلطة، فهو بمنزلة ربّان السفينة الذي يقودها في الأوقات السهلة كما في الأوقات الصعبة، في أوقات الريح الطيبة كما في أوقات العاصفة، يقودها إلى برّ الأمان أم إلى قاع البحر، وبالتالي؛ فإن طبيعة الحاكم وطبيعة الحكم ومناهج إنتاج الحاكم وامتلاك القدرة من عدمها على نقده وتصحيح مساره أو عزله، هي أهم مسألة على الإطلاق في تنظيم المجتمعات الحديثة. وهذا يطرح مسألة مرجعية الحكم والحاكم، ومن أين يستمد الحاكم سلطته، ومن يمتلك حق محاسبته وعزله، وهل ثمة قواعد لذلك.

في سورية، لعل هذه المسألة، مسألة مرجعية الحكم والحاكم، أهم قضية في المستقبل. وقد كان هذا الموضوع في لب الصراع الدائر في سورية قبل 2011 ثم بعدها، حيث فُتِحَ البابُ على مصراعيه لمناقشته علنًا وبصوت مرتفع بعد أن وضع عليه حجرٌ، وعدّ “تابو” لا يجوز الاقتراب منه، بعد أن استقرت السلطة بيد العسكر بعد انقلاب 8 آذار/ مارس 1963.

تبلور اليوم في سورية، كما في المنطقة، تياران رئيسان في مسألة الحاكمية ومرجعية الحكم والحاكم:

الأول: يتبنى رؤية وضعية تأخذ بالديمقراطية وأسس النظام السياسي الحديث القائم على مرجعية المواطنين/ الشعب، عبر صناديق الاقتراع ويفصل بين الدين والسياسة؛ ويضم هذا التيار تيارات فرعية عديدة بين الليبرالية والديمقراطية والاجتماعية واليسارية.

الثاني: تيار إسلام سياسي عريض يضم -بدوره- تيارات فرعية عدة، تتأرجح بين فهم متزمت يتبنى البيعة والمبايعة في إنتاج الحكم والحاكم، وبين فهم الإسلام على ضوء روح العصر، ويوفق بين الشريعة وبين الديمقراطية وقيم المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان.

والسؤال: هل ثمة إمكانية لجسر هذين التيارين العريضين في رؤيتيهما للوصول إلى آلية واحدة لإنتاج الحاكم؟

أعتقد أنه يصعب الدفاع عن إنتاج الحاكم بالطرق القديمة نفسها، أي بالبيعة والمبايعة وتسميتها “شورى” وهي ليست كذلك، وإن كانت هذه الطريقة مقبولة في المجتمعات القديمة لأنها كانت النمط السائد، فليس من المقبول اليوم أن يأتي عدد قليل من الرجال ممن يسمون أهل الحل والعقد نيابة عن أمة تعد ملايين ويحددوا هم حاكمًا معصومًا لها مدى الحياة.

فهذا النمط القيد لا يشمل أكثر من تسمية فرد ومنحه صلاحيات مطلقة، لا يقيده سوى التزامه “بشرع الله”، وهذه كلمة فضفاضة جدًا، لا تكفي -البتة- لتنظيم الحكم في مجتمع حديث اكثر تعقيدًا بآلاف المرات من مجتمع ما قبل 1400 عام، فمنهج البيعة لا ينص على أي مؤسسة تمثل الناس، ولا أي برنامج ملموس يلتزم بها الحاكم وتتطلبها الحياة  المعاصرة المعقدة، ولا آلية للمراقبة والمحاسبة، وإذا كان بعضها يسعى اليوم لترقيعها بتشكيل هيئات شرعية أو مجالس شورى يختارها الحاكم على هواه، فهي ليست اكثر من مساع للترقيع، لا تغير في جوهر الحاكم المستبد شيئًا.

لكن ثمة عقدة تحتاج إلى حل، فالداعون لمنهج مبايعة الحاكم يعتدون بأنه أمر إلهي ونص قرآني لا يمكن تجاوزه. إذ جاء في سورة الشورى {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الآية 38)، كما جاء في سورة آل عمران {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (الآية 159).

إن ما ورد في القرآن الكريم هنا هو مبدأ الشورى لا أكثر، ولم يحدد محتواها ولا طريقة تطبيقها ولم يحدد من ستتم مشاورتهم. وعلى الرغم من ذلك لم تطبق الشورى عبر التاريخ الاسلامي كله ولا مرة واحدة. فقد بدا الصراع على السلطة فور وفاة الرسول الكريم. لقد شكل اجتماع ثقيفة بني ساعدة أول ممارسة لإنتاج الحكم والحاكم في الإسلام بعد الرسول، إذ اجتمع في الثقيفة عدد كبير من الأنصار طلبًا للحكم، وكان على رأسهم سعد بن عبادة، كبير بني ساعدة، وفي قناعتهم أن اهل المدينة أحق بالخلافة من المهاجرين. وعندما وصل خبر اجتماع الثقيفة الى عمر بن الخطاب هرع الىيها مصطحبًا معه رهط من المهاجرين، وفرضوا بيعة أبي بكر بإرادة عمر وسطوته وبدون أي مشورة، وعلى الضد من رغبة الأنصار. وقد رفض سعد أن يبايع أبي بكر، ونُفِيَّ إلى حوران في الشام، ثم اغتيل بعد حين في مدينة بصرى الشام، وهي أول عملية اغتيال سياسي في الإسلام بعد وفاة الرسول. أي هو صراع مكشوف على السلطة، كان ومازال وسيبقى.

رتب أبو بكر خلافة عمر قبيل وفاته، وبيعة عثمان تمت من ستة من الصحابة فقط، نيابة عن المسلمين الذين كانوا قد بلغوا الملايين يومها، أما مبايعة علي فقد شابها صراع مكشوف، تبعه قتال بينه وبين معاوية الطامع في الحكم، والمستقوي بتحالفه مع أهل الشام، فطالب بقصاص قتلة عثمان، وقد رفض علي ذلك، فنشبت الحرب بينهما. وبعد مقتل علي على يد الخوارج تمت البيعة لولده الحسن من أتباع علي، وكان هذا أول توريث للحكم في الإسلام، وقد سبق توريث معاوية الحكم لولده يزيد. ولكن الحسن تنازل عن الخلافة لمعاوية بعد أشهر لا تزيد عن السبعة.

بعد موت معاوية، وكان قد رتب أن تكون البيعة لولده من بعده، جرت من بعد ذلك عادة، وتحول الملك الى ملك عضود يسير في العائلة من الأب الى الإبن، فأصبح ولده يزيد هو أمير المؤمنين الجديد، وعندما حاول الطامع الجديد في الحكم، وهو الحسين بن علي، أن يتمرد على سلطة يزيد، واتجه الى العراق لتكوين جيش لمقاتلة يزيد، أرسل يزيد من اعترضه في الطريق، ثم قتله بعد أن رفض الحسين العودة عن غيه، وكل هذا صراع مكشوف على السلطة لا علاقة له بدين.

استمر حكم بني أمية وراثيًا في العائلة السفيانية ثم المروانية لتسعة عقود، إلى أن اغتصبه منهم العباسيون الذين تابعوا الحكم الوراثي إلى ان انقرضوا، وبقي حكم بني أمية في الأندلس حتى العام 1492. وكان على مدى حكم الأمويين والعباسيين وما تلاهم من ممالك كان آخرها العثمانيون، يأتي الوريث الأقوى أو المغتصب القوى ببعض أنصاره من القادة ورجال الدين ليبايعوه، لاستكمال البيعة شكلًا بينما مضمونها توريثًا، بما يشبه ما فعله “خليفة داعش” البغدادي مؤخرًا وما يمكن أن يفعله أبو محمد الجولاني أو من شابههما.

القاعدة هي أن السلطة كانت تؤخذ في العصور القديمة غصبًا من قبل من يستطيع بناء قوة عسكرية أقوى، فيفرض سلطته بالإكراه، ويرتب كل مستبد جديد حفنة من أتباعه ليكمل البيعة شكلًا كي يقول أنه ملتزم بالشريعة.

إذن؛ لم يكن للشورى مكان في التاريخ الإسلامي، ويشبه هذا التاريخ تاريخ شعوب المنطقة ما قبل الاسلام وكذلك تاريخ شعوب الصين والهند والتتار والمغول، بل وحتى تاريخ اليونان وروما رغم بعض الاختلافات في الأخيرتين. لكن حتى لو سلّمنا بأن فترة الحكم الأولى في الدولة الاسلامية الناشئة بعد وفاة الرسول، والتي تمتد حتى مقتل علي، على أنها شورى، فهي لا تزيد عن 30 سنة، أما ما تبعها من 14 قرن فقد كان الملك عضوضًا. إذن؛ لم يقدم التاريخ الإسلامي خلال 14 قرنًا أنموذجًا لإنتاج الحكم والحاكم، صالحًا لحاضرنا  اليوم.

لكن وخارج هذا الجدل المذهبي الذي فات زمانه، فإن أي عاقل أو صاحب كرامة اليوم، وإن كان يحترم آليات انتاج الحاكم القديمة كونها كانت النمط السائد، فلن يقبل اليوم ببيعة ومبايعة وفق تلك التقاليد العتيقة.  أي أن يأتي بضع عشرات ليضعوا أنفسهم مكان أمة كاملة تعدادها عشرات إن لم يكن مئات الملايين ويقرروا نيابة عنهم من يحكمهم، مهما اتشح “أهل الحل والعقد” هؤلاء بمشوح مقدسة. وحتى لو كانت المرجعية دينية والحكم بشرع الله، فمن يقرر هذا ويحدد محتواه وأشكال تطبيقه وبرامجه وينظم مؤسساته هو مجمل الشعب وليس بضعة أفراد من جماعة الحاكم.

قبل مدة سألت احد الداعين “لمنهج البيعة” لإنتاج الحاكم في عصرنا الحاضر، فقال “تتم البيعة من قبل أهل الحل والعقد”، أي أعطاها تسمية جميلة، فقلت ومن هم هؤلاء؟، فقال: “هم العلماء الأبرز يجتمعون ويبايعون من يروه جديرًا بها”، قلت: وكم عدد هؤلاء، فقال “ربما بضع عشرات”، قلت: ولكن العلماء اليوم منقسمون بين النظام والمعارضة، وسيجد بشار الأسد ألف شيخ مُعمّم يُبايعه وليس بضع عشرات، كما أن المعارضة جماعات، وكل فصيل ممن يدعون لقيام دولة إسلامية، لديه “أهل الحل والعقد” الخاصين به والذين يأكلون على مائدته، وهم يتبعون له ويفتون ويبايعون بحسب ما يأمر، ويجدون له التبريرات الدينية وسيستشهدون دائمًا بالقرآن والسنة والسلف الصالح. فأجابني أن جماعة الأسد على ضلال ولا علاقة لهم بالاسلام، فقلت ولكن كل جماعة من الجماعات الاسلامية الكثيرة في سورية والمنطقة والعالم وهي بالعشرات وربما أكثر، تدعوا لأميرها ان يكون هو أمير المؤمنين او خليفة المسلمين، ثم هل يمكن ان يكون للمسلمين في العالم امير واحد او خليفة واحد؟ اليس هذا مقاتلة لطواحين الهواء؟ ولكن محدثي لم يكن مرحبًا باسئلتي فأشاح بوجهه عني.

وإذا كانت الأمثلة التاريخية ضعيفة الإقناع بسبب القداسة التي أحيطت بها، فإن الأمثلة الحاضرة القائمة بيننا الآن لها قدرة أكبر على خلق الفهم الصحيح، ورجال اليوم يشبهون رجال الأمس.

المثال الفاقع الآن هو دولة (داعش) الإسلامية، فالجولاني فرض خلافته غصبًا، فقد احضر نفرًا صغيرًا من اتباعه (يقال انهم 17 شخص)، وبايعوه خليفة للمسلمين، وقد قدّمت (داعش) أمثلة مرعبة فظيفة في بشاعتها ضد المسلمين السنة أكثر من أي أحد آخر.

المثال الآخر الأكثر خطورة هو مثال ولاية الفقه، فالشيعة قد أراحو انفسهم حتى من الشورى، فهم حصروا الخلافة في علي وذريته من بعده، ثم جاء الخميني ببدعة جديدة وهي ولاية الفقيه بحيث أسس لاستبداده بآيات وأحاديث وأحداث، مزجها بنوع من التنافس ضمن حلقة اتباعه ومؤيدي ولاية الفقيه لمنح حكمه شيء من الدينامية. رغم انه  وصل الى الحكم عبر ثورة عارمة ضد الشاه شارك بها العديد من المجموعات والقوى والأحزاب ، ولكن الخميني استطاع خداع شركائه ثم أبعدهم بل وقام بقتلهم، واستفرد بالحكم تحت ستار ديني، وفرض حكمًا دينيًا ثيوقراطيا مستبدًا، ساعيًا لفرض المشروع الفارسي في المنطقة بعباءة شيعية، مؤججًا صراعًا مذهبيًا يتيح له تجنيد اعداد كبيرة من الشيعة لخدمة مشروعه الفارسي. وليس شعاره “يا لثارات الحسين” إلا “يا لثارات فارس”.

لم تكن سلطة البعث بعيدة في جوهرها عن الاستبداد الديني فالاستبداد يشبه بعضه، فحفنة من الضباط اغتصبوا السلطة صبحية 8 آذار/ مارس 1963 ثم اصطرعوا فيما بينهم، وفي النهاية استفرد حافظ أسد بالحكم وورثه لولده، وقد كانت الشرعية الثورية هي الحجة لفرض هذا الاستبداد الذي عانت سورية الكثير على مدى نصف قرن ثم أدى الاستبداد إلى تهديمها في النهاية.

إنها أشكال استبداد سواء اتشحت بمشوح دينية أم علمانية وضعية لا فرق.

في النهاية:

ثمة تجربتان تؤسسان لطريقين، طريق التجربة التونسية التي قامت على تفاهم وتعاون بل وتحالف التيارين الديني والوضعي وتنافسهما من أجل النهوض بتونس، فجنبها الدمار، وطريق تجربة ليبيا حيث اصطدم التياران ومازالا يتنافسان، ولكن على تدمير ليبيا.

ليس ثمة طريق آخر أمام القوى السياسية السورية، سواء ذات المرجعية الوضعية ام المرجعية الدينية، سوى الأخذ بالنظام الحديث القائم على تداول السلطة المعتمدة على مشاورة جميع البالغين عبر صناديق الاقتراع، مما يجنيهم الصدام ويخلق أساس للتنافس لنيل ثقة السوريين. وهذا يعني بالضرورة تطبيق الحريات العامة بالتنظيم والتعبير للجميع وعلى قدم المسادواة دون تفريق بغض النظر عن الدين والمذهب والقومية والجنس، بما في ذلك حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية وحرية تكوين احزاب سياسية أي كانت مرجعيتها، وعلى قيم المواطنية المتساوية وحقوق الانسان وبقية جوانب المجتمع الحديث.

إن) النظام الديمقراطي الحديث هو النظام السياسي الوحيد الذي يعيد للسوري حريته وكرامته.




المصدر