إنقاذ الغوطة قبل فوات الأوان


 

-1-

منذ وقت طويل وأنا أتعرض لضغط شديد للكتابة عن مشكلة الغوطة، ولم أفعل. خمسة أشهر كاملة مضت لم أفتح فمي فيها بكلمة عن الغوطة ولا جرى قلمي بذكرها في قرطاس، ليس استهتاراً بها وزهداً بهموم أهلها، لا والله، ولكن لأنني رأيت مَن تقدم لعلاج المشكلة أهلاً لها؛ أيقنت أن "اللجنة السداسية" القريبة من أطراف الخلاف هي الأقدر على معرفة تفاصيله والأجدر بحلّه، فتمنيت أن يبتعد عن التدخل فيه مَن كان خارج الغوطة، وأنا منهم، فما تكاثرَ الطباخون على طبخة إلا فسدت واحترقت كما يقول المجرّبون.

لا بد من الاعتراف بفضل اللجنة السداسية -بعد فضل الله- في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه دول وفصائل وهيئات، فقد أنهت القتال الذي فشل في وقفه الجميع، وتم تبادل الأسرى والموقوفين وفُتحت الطرق وأمِنَ الناس. ولكن هذا لا يكفي ولا يُعفي اللجنة من إتمام عملها وحل المشكلات العالقة، وعلى رأسها ملف السلاح.

لقد فتح تقصيرُ اللجنة في حسم هذا الملف البابَ وسيُبقيه مفتوحاً لتدخّل البعيدين عن الغوطة في مسألة دقيقة خطيرة لا يستطيع البَتّ فيها إلا القريبون منها المُقيمون فيها، وكلما زاد المتدخّلون وكثرت المبادرات المرتجَلة تصاعد الاحتقان وازدادت الأمور سوءاً، ولا حلّ لهذه الفوضى إلا بأن تقوم اللجنة بواجبها وتتصدر لحل المشكلة قبل الانفجار.

-2-

نعم، توجد مشكلةُ سلاحٍ متبادَلة بين الطرفين، من أيام استيلاء الجيش على مقرات وأسلحة الفيلق (الاتحاد) في أواسط شباط إلى استيلاء الفيلق على مقرات وأسلحة الجيش في آخر نيسان. ولكنّ كل مطالَبة من هذا الطرف أو ذاك بأسلحة محدّدة النوع والعدد إنّما هي دعوى تحتاج إلى تحقيق وإثبات، هي كذلك في نظر الشرع والقانون حتى يحكم فيها قضاء محايد مستقل، ولا سبيل لمثل هذا القضاء إلا لمن هو داخل الغوطة وعلى اتصال بالطرفين.

في الحالة الراهنة لا يوجد مَن يمكنه حل هذا الإشكال أكثر من اللجنة السداسية التي بدأت بحل المشكلة أول مرة، وهي تبقى -مهما قيل فيها- من أقرب كيانات الغوطة إلى الحياد وأبعدها عن الاستقطاب وأقدرها على حل المشكلات والخلافات. ولا أرى الطعن في اللجنة والدعوة إلى إسقاطها إلا جناية على الغوطة ودفعاً لها إلى هاوية مجهولة القرار، وهي دعوة مريبة تذكّرني بالدعوات المتكررة إلى إسقاط المجلس الإسلامي، أفضل مظلّة شرعية جامعة للثورة وإن لم يكن الكامل الخالي من العيوب.

على أن وضع الغوطة الخطير لا يحتمل التطويل والتأخير، فعلى الطرفين أن يقبلا الاحتكام إلى اللجنة وأن يرتضيا حكمها بلا شروط، ولا بد من موعد وأجل محدود تُمنَحُه اللجنة لإنهاء ملف السلاح، بالأيام لا بالأسابيع، لأن الغوطة باتت في مهب الريح.

-3-

إلى حين البتّ في ملف السلاح (ومهما تكن نتيجة تحقيق اللجنة وحكمها) فإن قادة فصائل الغوطة مطالَبون بتحييد المجاهدين والجبهات وإخراجها من الخلاف، فالمجاهد في الجبهة لا يبالي بما يَشْجر بين القادة. إنّ كل ما يهمه هو الاجتهاد والإخلاص في الرباط والقتال، وكل اختلاف بين القادة نتيجتُه ضعفٌ في التسليح واختراقٌ للجبهات وضياع للأنفس وإهلاك للمجاهدين.

هذا ليس يوم التمييز بين مقاتل الجيش ومقاتل الفيلق ومقاتل الأحرار. إنهم يعلمون أنهم كلهم مأكولون آجلاً أو عاجلاً ما لم تتوحد القوى المجاهِدة على كل الجبهات، فافتحوا الطرق ولا تعيقوا تنقل المجاهدين بين جبهات القتال والرباط، واستقبلوا المؤازرات من أي طرف دون شروط وبعيداً عن المهاترات والمزايدات.

أما الدعوة إلى فتح معركة جديدة فلا أحسبها دعوة صائبة، ولا أراها إلا استنزافاً للموارد المحدودة وتكريساً للتخطيط المناطقي القاتل. فكروا بعقلية هيئة أركان الحرب. ماذا ستفعل مثل هذه القيادة العسكرية المحترفة لو وُجِدت في الغوطة؟ سوف تثبّت وتدعّم خطوط التّماس والرباط على الجبهات الباردة وتنقل القوة الفائضة كلها إلى الجبهات المشتعلة في القطاع الشرقي لحمايته من السقوط، وبعد ذلك ستعكس اتجاه المعركة من الدفاع إلى الهجوم لاسترجاع القطاعات الضائعة في تل كردي والمرج وبقية المناطق. هكذا تنجو الغوطة بإذن الله، أما إذا لم ننجح في استرجاع ما فقدناه خلال الأشهر الأخيرة فإن خطة النظام في القضم المتدرج ستمضي قُدُماً حتى تأكل الغوطة كلها لا قدّر الله.

نسأل الله أن يجمع القلوب على ما يرضيه، وأن يفرّج عن الغوطة وأهلها الكرام وينصرهم على عدوهم نصراً مؤزراً عاجلاً غير بعيد.