طريق النهضة الوطنية مرتبط بالنهضة السنية


حافظ قرقوط

لعل الثورات الوطنية التي قامت بها الشعوب، لنيل استقلال دولها عن الاستعمار في القرن الماضي، تُعدّ دلالة جيدة على أنه لم يكن أحد في المنطقة يُجادل في خصائص التركيبة السكانية، وإن حصل، فهو ليس عن رغبة في إلغاء الآخر، أو تحجيمه عنصريًا، لا من حيث الاثنيات، ولا من خلال الانتماء الديني؛ حتى ما قيل عن صراعات طائفية في لبنان منذ عام 1860، قد انطلق -أساسًا- كصراع ضد الاقطاع، الذي بدوره وجد في تجييش الرأي العام الطائفي كوسيلة للدفاع عن مكتسباته السلطوية بتلك المرحلة، لتأتي الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينيات القرن الماضي، أظهرت بوضوح أن الاستبداد هو المحرك الأساس لكل أنواع الصراعات التي هدفها إلغاء الآخر.

ربما أهم مفصل تاريخي يمكن عدّه نقطة انطلاق ونمو، للنزعة الدينية كمحرك للصراع في العصر الحديث، كان عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين وترحيل أهلها منها، ولكن في المقابل نجد أن سنوات مهمة مرت على تطور الثورة الفلسطينية، كانت واجهتها وأفكارها وأهدافها تحددها الحالة الوطنية الفلسطينية، بل إن قادة تنظيمات سياسية وعسكرية فلسطينية من المسيحيين، أصبح لهم مكانتهم المرموقة بين كافة شرائح المجتمع كافة، قبل أن تظهر الحركات الجهادية كوجه جديد للاستبداد.

مع تطور الصراع في المنطقة ووصوله إلى مراحل حادة، إن كان ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أو مواجهة المجتمعات للاستبداد مع وضوح عجزه وفشله في إدارة التنمية، وغطرسته في تعامله مع المكونات المجتمعية، ثم تغوّله بالدم بعد ثورات الربيع العربي كما في سورية وغيرها، نجد أن هذا الاستبداد استفاد -كما إسرائيل- من تعويم الخطاب الديني، ووجدت فيه الحركات الإسلامية المتطرفة مادتها المفيدة والمغذّية لها، ووجدت فيه إيران دافعًا قويًا لمشروعها التوسعي، بالارتكاز على ما بنته خلال عقود من حركات سياسية وعسكرية شيعية، بأجندة غير وطنية تعتمد في تدعيمها على المال من جهة، وعلى حالة غيبيّة في الخطاب (حزب الله اللبناني أنموذجًا)، حيث يُجيّش على الآخر المختلف، ويشد عصب الجماعة على بعضها، دخلت المنطقة -بالنتيجة- في حقبة تاريخية خارج سياق التطور الطبيعي، وفقدت المجتمعات سنوات من محاولة بناء ذاتها، وغابت الأفكار الوطنية، واتضح أن الفكر النهضوي العربي يدور بحلقة مفرغة، فبعضه استند إلى مفاهيم القومية العربية، وبنى الأفكار على أن الوحدة مفتاح القوة والتقدم والحرية والعدالة، وبعضه استند إلى الفكر اليساري ومقولات ماركس وإنجليز في التغيير المجتمعي، وصدام الطبقات الفقيرة العاملة مع رأس المال، وسوّق نفسه بشعارات غير واقعية، كما برز أيضًا فكر الإسلام السياسي، محاولًا استنهاض الأمة بصفتها الدينية لا الوطنية، وروّج لشعارات عقائدية كبرى كسابقتيها، وهذه الأفكار على الرغم من أنها غير واقعية إلا أنها دخلت في المحظور وتلحّفت به؛ لمنع نقدها وتعرية أهدافها من الآخر المختلف، وبين كل هذا ظهر بعض الفكر الذي استند أصحابه إلى المفاهيم التنويرية التي قادت إلى النهضة الأوربية، وحاولوا ترشيدها؛ كي تتلاءم مع المجتمعات الشرقية، لكنها بقيت محدودة الأثر، لكن الحالة التعليمية المتدنية والتصحر السياسي وانعدام فعل منظمات المجتمع المدني المستقلة، والاستناد على منظمات ونقابات بديلة أخذت -هي كذلك- الشعارات، ودارت في فلك الاستبداد، كونها كانت نتاج سلطة فأصبحت عبئًا على المجتمع، وليست فاعلة، كل هذا أدى إلى عدم نضوج الفكر الدينامي البعيد عن الأيديولوجيا، بحيث ينتمي للمجتمع ويستلهم منه ليعطيه، فنحن أمام مريض يتطلب الأمر علاجه، لا قتله أو دفعه إلى الانتحار.

إن الحديث في سورية عن نهضة المجتمع وبالنتيجة الدولة، بمعزل عن فهم الحاضنة أو الحامل الذي سيأخذ على عاتقه سبل التغيير، ويدفع ثمن المواجهة عن طيب خاطر، وعن رغبة بالانعتاق من أشكال الظلم والاستلاب كافة، سيكون حديثًا مشوّهًا، مهما بدت كلماته براقة ومُغرية، ومهما لامست الأوجاع والإشكالات، وإن تجربة عقود طويلة من محاولة الاختباء خلف الشعارات، أدّت -بمحصلتها- إلى إيصال سورية بكل مكوناتها، نحو حائط مسدود لا نافذة فيه سوى دوامة الدمار، تلك المحاولات الفاشلة منذ عهد الاستقلال حتى الآن، يجب أن تكون كافية لإعادة تقويم الخطاب الفكري؛ حتى وإن دخلنا في حالة غير شعبيه لبعض الوقت، وهنا لا بد من الغوص في مسألة الفقه الإسلامي السني تحديدًا، وعدّ طريق النهضة الوطنية السورية، مرتبط ارتباطًا وثيقًا مع النهضة السنية، إن كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها مما يطلبه بناء المجتمع والدولة، المسألة -هنا- مسألة عبور من شاطئ إلى شاطئ، وهذا العبور يلزمه السفينة التي تستطيع أن تحوي وتحمل الفئات والمكوّنات كافة، أولًا بصفتها العددية والشعبية الفاعلة، وثانيًا بسبب إرثها التاريخي الذي تستند إليه ويمكّنها من لعب هذا الدور، وثالثًا كضامنة لعدم انهيار التجربة في المستقبل، كونها هي الفاعل الأساسي فيه، والتي ستعمل على حمايته.

إن الدخول في التسميات الدينية، وعدّ أن السنة هم عماد التغيير والنهضة الوطنية، هذا لا يعني أن التغيير الذي سيحصل يجب أن يحمل صفة دينية لها لونها الخاص وصفاتها، ومن هو خارجها عليه الانزواء بعيدًا عن الفعل، متوهمًا أن المسألة لا تعنيه؛ فهذا سيعيدنا إلى المعادلة المقلوبة؛ بحيث تعود النتائج بلا حصاد، ربما نظرة هادئة إلى ما أُطلق عليه الفسيفساء السورية، ستعطينا فكرة عن أن الأكثرية السنية هي من شكّلت في الماضي ثقل الحركة الوطنية؛ لتثبيت الدولة ككيان، واحتضنت رموز المكونات الأخرى، وهي من حاولت إصلاح الفكر السياسي وتنوير الفكر الديني، وهي من انبثقت عنها بعض مكوّنات البرجوازية الوطنية بعد الاستقلال، وقادت إلى بداية تأسيس الحالة الديموقراطية، قبل أن تقضي عليها الانقلابات العسكرية التي أوصلت البعث -بالنتيجة- إلى الحكم، وهي التي ساهمت في تثبيت المجتمع السوري بتلك التركيبة في المدن والمناطق كافة، لتأتي الثورة السورية في آذار/مارس 2011، فتصدح الحناجر للحرية الوطنية السورية، وتكون الأكثرية السنيّة هي الدينامو الفاعل فيها، وهي من دفع الثمن الحقيقي لأجل ديمومتها، فاستغل الاستبداد وأعداء التغيير التاريخيين هذا الجانب، ليوصموها بالإرهاب، وبأنها حراك ديني هدفه إلغاء الآخر، وبذلك وحّد الجهد في وجهها، وحاول استمالة بقية المكوّنات تحت اسم أقليات، إضافة إلى بعض السنة الخائفين -بالأساس- من أي تغيير ينال المجتمع؛ لأسباب مختلفة، فوجدت الحركات الجهادية فرصتها في الانقضاض على الشارع، تحت شعارات تُعيد للأذهان حالة الاستلاب التي مارسها الاستبداد مع تغيير العناصر الحاملة له.

من الواضح أن حجم الظلم الذي جابه النظام به الشعب السوري الثائر، كان هائلًا لدرجة أن مجرد التفكير به يُعدّ قاسيًا، وكان للطبقات المهمّشة في المناطق كافة، النصيب الأكبر من هذا الظلم، وإن غياب الإطار الحامي للأفراد والأسر والجماعات، جعل العديد من هؤلاء الناس يحتمي بالطائفة، ولكون الأكثرية السنية هي التي قادت الحراك واحتضنته، فقد كان الثمن مضاعفًا -هجوم النظام وسيطرة الفصائل المتطرفة في بعض المناطق-، ولكن لم يظهر الفكر السني النهضوي على السطح؛ لأنه لم يجد المناخ بين زحمة القتل والتهجير الممنهج، مع الصمت الدولي المشبوه.

كل تغيير في المجتمع يحتاج إلى حامل له، وهذا الحامل السوري هو بحكم الواقع السنّة، ليس بصفتهم الطائفية، كما ذكرنا في الأعلى، بل بأهليتهم الوطنية، وإن انفتاح بقية المكوّنات عليهم، وانفتاحهم على بقية المكونات، مع البحث عن القيم البنّاءة، بعيدًا عن التهميش، سيؤدي إلى نهضة وطنية متكاملة، بحيث لا تنغلق المجتمعات دينيًا على كياناتها بشكل عُصبوي، ولا تنغلب الطائفة الكبرى تحت حجج واهية تغلبًا عنصريًا، كما أنه على النخب المُفكرة، أن تتصالح مع فكرة أن دراسة الحالة الطائفية، وسُبل الخروج منها في سورية، ليست عيبًا، بل أصبحت ضرورة، وأن السنّة هم عماد هذا البيت، وبنهضتهم تنهض سورية كدولة وطنية.




المصدر