عن القوميين والعرب والثورة السورية


عبد الرحيم خليفة

موقف بعض القوميين من نظام الأسد غير مبدئي، وغير مُقنع، وليس له ما يبرره اليوم، وقد تنبه بعضهم، مبكرًا لطبيعة النظام السوري، وحذر منها، كما تنبه لقضية الديمقراطية، وعرّى بِنى الاستبداد، وهؤلاء يجب أن يحفظ لهم حقهم في (السبق) الذي لم تهتد له الأغلبية منهم.

واحدة من أهم التحديات التي واجهت الفكر القومي العربي، منذ عقود، هي القطع مع الاستبداد، وكامل منظومته، والتبرؤ من سلوكياته التي ألحقتها به سياسات النظم العربية “القومية”.

“يخوض بشار الأسد معركة الدفاع عن مصر وأمنها، وسقوطه يعني انتقال المعركة إلى داخل مصر؛ لإسقاط الدولة فيها”!! هذه خلاصة حوار مع شخصية عروبية، في القاهرة، في الربيع الماضي، وهي وجهة نظر قطاع واسع من العروبيين، للأسف.

هكذا ببساطة، وسذاجة، يتحول بشار الأسد قاتل شعبه، ومدمر وطنه، إلى حامي أمن مصر، وهي التي خاضت حروبها، كافة، خارج حدودها دفاعًا عن أمنها!

صدّق نسبة كبيرة من القوميين العرب أكاذيب النظام السوري، ودعايته، وانطلت عليهم حججه، فباتوا جزءًا من إعلامه وسدنته، يناصرونه ويدافعون عنه، اعتقادًا منهم أنهم بذلك يحبطون “المؤامرة” على آخر “قلاع الأمة العربية” المستهدفة بوجودها وأمنها.

قدّم على الدوام هؤلاء “قضايا الأمة” على قضايا أوطانهم الصغيرة (الكيانات القطرية)، وعلى قضايا الحرية والإنسان، متشبعين بأفكار وقيم انقضت، وانتهت، تاريخيًا، منذ عقود، وثبت قصورها وخطؤها.

النظرة هذه، للنظام السوري، ليست وليدة الثورة السورية، بل سبقت ذلك بكثير، وكانت على الدوام موضع خلاف بين القوميين، وفي داخل أطرهم التنظيمية، القومية أو القطرية، فمثلًا، حين تعرض الناصريون في سورية للاعتقال والملاحقة، في خريف 1986، ظل قسم كبير من هؤلاء العروبيين على توصيفهم للنظام السوري: بأنه قومي و”ممانع”، وإن لم ينكروا صفة الاستبداد عنه. (قالها بعضهم على مضض واستحياء، وبعد نقاشات طويلة وحوارات مضنية، وبعضهم اجتهد في تبريره)!

الأمر ذاته، مع هؤلاء، ومنهم سوريون، كان الخلاف عاصفًا وحادًا، حول توصيف النظام السوري، بعد انتقال السلطة من الوالد للولد، هل هو وطني أم غير وطني، هل هو طائفي وهل… وهل…؟

لم يعترف القوميون ردحًا طويلًا من الزمن بحدود التجزئة، والكيانات القطرية، فأسسوا أحزابهم وتنظيماتهم على أسس قومية، وصاغوا خطابهم السياسي على هذا المعنى، وبقي منهجهم في التحليل متجاوزًا للحدود القطرية؛ ليجدوا أنفسهم -في المآل- مدافعين عن نظم انتهكت كل القيم الإنسانية، ومارست أحط أنواع الوحشية، سحقًا لكرامة الإنسان، وارتبط بعضهم بعلاقات انتهازية مع نظم قطرية وفاسدة؛ لمجرد أنها ترفع شعارات قومية، زورًا وبهتانًا.

جذر الحالة الموصوفة  ثقافي، فكري، معرفي، لم يستطع أن يفهم حركة التاريخ ويأخذ بناصيته، من خلال استيعاب القيم الديمقراطية والحرية، والتعددية وحقوق الإنسان، والدفاع عنها، بل القتال لأجلها، وللأسف فان هذا التحول إلى الديمقراطية لم ينجز على الرغم من مشروعات كثيرة وكتابات عديدة لنخب علمية، لها دورها الحركي في الواقع، وعلى مدى سنوات طويلة، لتأصيل فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والاشتغال على مشروع النهضة العربية الذي خلص إلى أن الديمقراطية ضرورة من ضرورات الحياة والتنمية والحكم الرشيد، مازلنا نجد من ينحاز للطغاة، وعاد إلى مقولات يدحضها الواقع كل لحظة وكل يوم. (وربما كان أوضح الأمثلة على ذلك هو مركز دراسات الوحدة العربية الذي تفرع عنه المؤتمر القومي العربي).

مع بداية الثورة السورية جاء من هؤلاء الغافلين، المتنكرين لقناعاتهم ونضالهم المديد، من يطالب العروبيين السوريين الذين انحازوا إلى ثورة شعبهم، وانخرطوا فيها بكل إيمان وقناعة، بوصفها ثورة حق وعدل وكرامة، لتحذيرهم من “المؤامرة”، وبالتالي؛ التمني عليهم الوقوف مع نظام الأسد لإحباط “المؤامرة”.!!
وفي الوقت الذي يتعرض فيه الشعب السوري لأفظع مذبحة جماعية عرفها التاريخ يحج بعض هؤلاء إلى دمشق، وطهران، أو لعند حليفهم حسن نصر الله، يصافحونهم باليد اليمنى، ويقبضون منهم ثمن مواقفهم الرخيصة، والمتهافتة، باليسرى، متناسين مقولاتهم عن أن كل شيء (يبدأ بالإنسان)!

بالأمس، وفي السياق التاريخي للفكر الإنساني، كان مفهومًا ومبررًا كثير من المقولات والسلوكيات وفق ترتيب الأولويات والأهداف، أما اليوم، وفي ظل المتغيرات العالمية، والثورات العلمية المتعاقبة، وبعد سقوط معظم النظم الشمولية يصبح هؤلاء ليس خارج الفهم العام للأحداث فحسب، إنما خارج حركة التاريخ المتجددة والمتطورة، والصاعدة نحو الأعلى.

الخروج من التاريخ يعبر عنه اليوم، مثلًا، بقول أحدهم: إن “مؤسسة الجيش العربي السوري” هي الضامنة لوحدة البلاد، وآخر، يعدّ الوقوف إلى جانب الجيش “الوطني” ضرورة لمحاربة الإرهاب.

واحدة من أهم التحديات التي واجهت الفكر القومي العربي، منذ عقود، هي القطع مع الاستبداد، وكامل منظومته، والتبرؤ من سلوكياته التي ألحقتها به سياسات النظم العربية (القومية)، إضافة إلى التوفيق بين المسألتين الوطنية والقومية، وها هي تطرح مجددًا على بساط البحث، كتحد يتوقف عليه مستقبل هذا التيار.
إن أي “فلسفة” لهذا التحدي لا تأخذ في الحسبان مستجدات الواقع العربي والعالمي، ولا تنفتح على تيارات الفكر الإنساني العالمي، ستكون خائبة، وستزيد عزلة أصحاب هذا الاتجاه.

موقف القوميين، بعضهم وليس كلهم، اليوم، من الثورة السورية هو في الحقيقة أعقد من نظرتهم المختلة حول مجريات الصراع الدائر في سورية، وعليها، إنه يطال رؤيتهم من التحولات الجارية في داخل كياناتهم القطرية، ففي حين كانت رؤية اليمنيين ناضجة، ومتقدمة على غيرها من أطراف الصراع المحلية، لم تكن كذلك عند المصريين في معظمهم، وحين ارتضى عموم القوميين اللبنانيين التبعية لحزب الله والنظام السوري، على الرغم من معاناتهم منه، كان التونسيون جزءًا مهمًا وأساسيًا من العملية السياسية، وترسيخ الديمقراطية، قيمًا وممارسة، وهكذا.

التيار القومي، اليوم، عمومًا، أمام امتحان صعب، ومفترق طرق خطر، مواقفهم ستحدد مستقبلهم.




المصدر