on
أزمة العقلانية إسلاميًا
أحمد الرمح
القرآن الكريم اعتمد منهجًا عقلانيًا جدًا عندما رفض التقليد في الإيمان؛ وطرح مبدأ علميًا عقلانيًا، وهو (استدل ثم اعتقد)، ونرى ذلك جليًا في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}. (محمد:19)
هنا نجد النص القرآني يتحرش بالعقل البشري، ويدفعه نحو البحث العقلي؛ ولا يريد منه أن يستسلم؛ حتى في العقيدة؛ بل ربما يمكننا القول بأن القرآن يريد من العقل أن يكون شكيًا، يبني المعلومة على أساس المنهج التجريبي، كما فعل إبراهيم في قضية الطيور الأربعة.
الشك المنهجي علم أصيل من علوم المدرسة العقلانية الإسلامية، أسسه القرآن؛ ووطَّنه -ضبطًا- المعتزلة والأشاعرة، وهو يختلف تمامًا عن الشك العبثي (الديكارتي)، المشكك في كل شيء؛ القريب من العدمية، فالشك المنهجي هو ما يؤسس اليقين على المنهج التجريبي، والعقل المسلم مطالب شرعًا بتدبر الخطاب القرآني، واستنباط مقاصده؛ ليحوله من مجرد نص مبارك متعبد بتلاوته إلى فعل متحرك في الواقع، وبهذه العملية العقلية نستطيع التوفيق بين كلام الله (القرآن) وفعل الله (الكون).
هذا يعني أن الإسلام قاعدته النص وآلته العقل؛ لذلك كانت كلمة الوحي الأولى (اقرأ)، هي دعوة لتحرر العقل بالمعرفة، بعد أن تعالى الصدأ عليه، ولم تكن دعوة للصلاة أو الصيام؛ إنما للقراءة التي هي نشاط عقلي بالدرجة الأولى.
النص الأول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}. (العلق:1+2) يوجهك إلى (الإقرأين): اقرأ الدينية واقرأ الدنيوية، فاقرأ الأولى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. هي للقراءة الدينية. واقرأ الثانية: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. هي للقراءة الدنيوية. المشكلة أننا لم نقرأ (اقرأ) الدينية بل قُرِأت لنا؛ فأغفلنا (اقرأ الدنيوية)؛ حتى تكلس العقل، وعلى الرغم من الصدمات الماركسية والعلمانية والحداثوية لم نحاول أن نعقدَ مصالحة ما بين (الاقرأين)؛ لأن خصوم العقل خلطوا ما بين العقل والهوى؛ فاعتقدوا أن العملية العقلية مذمومة.
ولكن متى بدأت أزمة العقلانية لدينا؟
لو بحثنا تاريخيًا في بداية تلك الأزمة، بعيدًا عن العاطفة؛ سنجد أنها بدأت مبكرًا جدًا في تاريخنا الإسلامي، ويمكن عدّ اللحظة التي انتصر فيها أحمد بن حنبل على (المعتزلة)، هي بداية عزل العقل عن ميدان البحث والتحليل، وتفرد النصوصية السلفية في الساحة العلمية؟ إن لحظة انتصار ابن حنبل لحظة عظيمة، لا شك في هذا؛ لأن المعتزلة سلكوا طريقًا خطأً في عرض أفكارهم؛ تمثل بقهر الناس عليها، مستفيدين من قربهم من السلطة. ولكن لو دققنا في ذلك الانتصار؛ لوجدنا أنه يؤرخ للحظة انهزام العقلانية إسلاميًا.
إذ استُثمر انتصار الإمام أحمد خطأ، حيث طغى التيار النصوصي؛ وهيمن أهل النقل على المعرفة الدينية؛ حتى أن القرنين الثالث والرابع كانا قرني أهل الحديث بامتياز، وغدت العملية العقلانية في التعامل مع النص الديني، وفلسفة المعرفة الدينية ينظر إليها وكأنها هرطقة وسفسطة؛ يُراد منها هدم الدين؛ ولا نزال -حتى يومنا هذا- ننظر إلى الفلاسفة وآرائهم بشك وريبة ونعدّهم زنادقة!
كما لم تستطع مدرسة الأشاعرة التي اتخذت خط الوسطية والمصالحة ما بين المدرستين (مدرسة النصوصيين والمعتزلة) بمسمى مدرسة (علم الكلام)، لم تستطع حتى يومنا هذا أن تسجل انتصارًا حقيقيًا للعقلانية؛ لغلبة تخرصات التصوف عليها من جهة؛ ومن جهة أخرى؛ لكونها غدت المشرعن والداعم الحقيقي للأنظمة المستبدة بذريعة الخوف من الفتنة!
أما الانكسار الثاني للعقلانية، فقد تم بعد سيطرة المماليك (الذين مثلوا آنذاك المدرسة العسكرية) على الخليفة القادر بالله؛ حتى أصبح لعبة بين أيديهم! وأصدر أمرًا سلطانيًا سُمي تاريخيًا بالاعتقاد (القادري) حرَّم المقولات العقلانية، وعلم الكلام، وفكرة العدل والتوحيد؛ فسيطرت السلفية النصوصية مرة أخرى؛ ولو بحثنا في المرسوم القادري؛ لوجدنا خلفه بعدًا سياسيًا؛ إذ استنهض فقهاء الاستبداد النصوص خارج سياقها؛ لتخدم الاستبداد المملوكي المسيطر على مقدرات المجتمع. وحيثما تقدمت العسكرة تأخرت العقلانية.
جاء القرن الخامس الهجري؛ ليشهد انكسارًا آخر للعقلانية، عندما استطاع الإمام الغزالي هزيمة الفلاسفة هزيمًة شعبوية، من خلال كتابيه (تهافت الفلاسفة)، و(المنقذ من الضلال)، وعلى الرغم من أنَّ (الغزالي) كان يريد أسلمة الخط الفلسفي، وتبرئته من عمقه اليوناني، إلا أن إغراقه في العرفانية والزهد وانحيازه للتصوف، جعل انتصاره يُستثمر خطأ ضد العقلانية؛ حتى أصبح ذلك الانتصار خادمًا للخط الوعظي والعاطفي، وأصبح الخطاب العاطفي يغلب على النمط العقلاني في التعامل مع الأزمات. والعاطفة لا خلاف عليها إسلاميًا وإنسانيًا، ولكنها تصبح معوقًا عندما تغدو الأسلوب والمنهجية في التعامل مع الأزمات؛ حيث تغلب عليها قلة الدراسة والتخطيط، والانفعالية في رد الفعل، والمبالغة في توصيف المشكلة، والجبرية ومخاصمة خط الإصلاح والتجديد.
حتى عندما ظهرت المدرسة العقلانية المعاصرة بقيادة محمد عبده، استخدمت المؤسسةُ السياسية التيارَ التقليدي في محاربتها وتكفيرها؛ لأن إعادة العقل للعمل يعني عودة الوعي، وبعودة الوعي تنكشف عورات المؤسستين: السياسية والدينية، وهذا ممنوع! وبرحيل محمد عبده والكواكبي والأفغاني، لم يستطع تلامذتهم تطوير المدرسة ولا تفعيلها من جديد؛ فارتفع صوت المدرسة التقليدية من جديد على الرغم من المحاولات الجادة للمصلح الكبير محمد الغزالي.
اليوم سيطر التيار السلفي المدعوم نفطيًا وغطى الفضاء الإعلامي؛ ففرض نمطًا جديدًا في التعامل مع النص الديني؛ اعتمد الارتداد السلبي إلى التاريخ، ومساكنته شكلًا ومضمونًا؛ بالاتكاء على مفاهيم القرن الثالث الهجري، فارتفعت نغمة تكفير المخالف؛ فعادت الشكلانية والمفهوم الظاهري للنص للسيطرة شعبويًا؛ وغدت كل محاولة عقلانية للتحليل وإدارة الأزمة توصم بالعمالة والردة والزندقة والكفر!
وقد أدان القرآن العقلية المكتفية بالتراث الأبوي الرافضة للتحول المعرفي والحضاري؛ كونها استمدت ثقافتها من المصدر الأبوي، دون جهد نقدي له؛ أدانها لأنها ثقافة اتكالية مقلدة غير مبدعة، ولا معترفة بأزماتها: {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}. (الزخرف:22)
ففي ظل اللاعقلانية تتمدد ثقافة الخرافة؛ لتنخر العقل، وتهيمن الظاهرية بحُجة الفهم الأبوي‘ ومنهج النبوة يرفض أن يستسلم العقل للخوارق؛ ليؤلها خرافيًا؛ كما يرفض الظاهرية في التعامل مع النص لكونها محنطة له؛ لذلك أسس العقل على أساس علمي؛ ليكتشف قانون السببية الذي هو اكتشاف إسلامي بامتياز، فحينما كسفت الشمس في أثناء موت إبراهيم ابن النبي، وفسرها الناس على أساس خرافي مخارقي، رفض رسول الله تلك العقلية، وأبى إلا أن يكون التفسير السببي معلوم في العقل المسلم، فقال: إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد من الناس، ولكنهما آيتان من آيات الله.
إن العودة إلى العقلانية العلمية هي إعادة لاكتشاف قانون السببية؛ لفهم الاخفاقات والهزائم التي لحقت بنا؛ وهي الخطوة الأولى لبناء مجتمع عاقل باتجاهاته الأربعة الإيمانية والإنسانية والإبداعية والتنموية؛ الغيب فيها ليس لاهوتًا جبريًا، كما نعتقد اليوم، والطبيعة محكومة بقوانين صارمة لا تخرقها الأوهام؛ والإنسان سيًد فيها، لا سيدًا عليها؛ ونعمة التسخير الكوني الممنوحة من الله -سبحانه- لنا لا يمكن إدراكها إلا عقليًا بفهم قانون السببية.
أما إن بقينا مخاصمين العقلانية العلمية؛ لنقول كما قال علماء الحديث: كل حديث نبوي ذُكر فيه العقل هو حديث ضعيف أو موضوع؛ فسنستحق أن يُكبر علينا أربعًا.
المصدر