الذين مسهم الحزن


صبر درويش

أتيح لي أن أطّلع على مسودة رواية روزا الحسن “الذين مسهم السحر”، عندما كنت محاصرًا في إحدى البقاع السورية. كانت الرواية مرئية إلى حد موجع. وكانت روزا ترصد بعين ثاقبة جملة التحولات التي تطرأ على مجتمع الثورة، وكنا “نحن” نرفض، في تلك الأثناء، أن نعترف بهذه التحولات. كانت روزا جريئة في رواية حكايتنا، وشجاعة في رصد انكساراتنا وأحلامنا ورغبتنا في التغيير. وفي كل الحالات، قدمت روزا عبر روايتها “الذين مسهم السحر” شهادة ووثيقة سيقرأها أبناؤنا القادمون بكثير من الشغف.

روزا الحسن

تنتمي رواية روزا إلى جنس أدبي خاص بالرواية ساد خلال العقود القلية الماضية في سورية، وهو الأدب التوثيقي -إذا جاز التعبير- والذي أجادت روزا العمل عليه وتحديدًا في روايتها “نيغاتف”، والتي صدرت في عام 2008، عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والتي لم تتوقف عندها، بل استمرت في تعميق تجربتها هذه، وإجراء التعديلات عليها؛ حتى قد يصح القول بأن روزا باتت لها لمستها الخاصة على صعيد أدب الرواية السورية، تقول روزا: (معظم رواياتي، هي مزيج بين التخييل والواقع، وفيها استخدام للوثيقة ولكن بشكل لا يجعلها هي الحاكمة، يعني جرّها من كونها مجرد وثيقة إلى مستوى النص الروائي وجعلها جزءًا منه. العمل على دواخل الشخصيات المكتوبة وانفعالاتها وتقلباتها الشخصية والاجتماعية، والقيمية والأخلاقية، وكذلك تطورها وتغيرها عبر زمن السرد، واستخدام التقنيات الروائية المتعددة والمختلفة، التي أستخدم منها كثيرًا، كل ذلك يجعل الوثيقة بشكلها الجامد المعروف تتبدّل تمامًا حين ترقى إلى النص الروائي).

لماذا الرواية التوثيقية؟

إذا كانت الديناميات المتسارعة للحدث السوري منذ منتصف آذار 2011، كانت قد فرضت على الكتاب السوريين بمواقعهم المختلفة، التوجه نحو التوثيق ومحاولة القبض على تفاصيل الحكاية السورية التي تخاض بالدم والأشلاء، فإن لهذا النوع من الكتابة تاريخ في المشهد الإبداعي السوري، وهدف سعى إليه، تقول روزا: (إن استخدامي للوثيقة هو بالدرجة الأولى لأنسنتها، وحملها؛ لتكون محقونة برائحة البشر وعواطفهم، بلون دمائهم وضحكاتهم، أي تدوين لتاريخ سريّ للناس، مخالف للتاريخ الرسمي الذي تكتبه السلطات، واسمه رواية).

قد تكون الرواية التوثيقية، من أهم ما كتب على صعيد الرواية السورية خلال العقدين الماضيين، حيث تحتشد العناوين؛ حتى يكاد ينحصر فعل الرواية في سورية على هذا الجنس. والسؤال لماذا؟ يكاد يكون بديهيًا في بلد حكم بقوة العسكر والحديد، وأحصى على السوريين أنفاسهم، فكان -والحال كذلك- لابد من مواجهة مبتكرة بين قوة الأدب وقدرته على القول، وقوة القبضة الحديدية التي سعت إلى كم الأفواه ولجم العقول.

اختبر السوريون في أوقات مختلفة من تاريخ حكم الأسد لهم، تزوير حكايتهم، وحتى اضمحلالها، وفي كل مرة كانوا يبحثون فيها عن ذواتهم فيما قصّ عنهم، يصطدمون بغيابهم وحضور ذوات لا تخدم سوى رواية حكام سورية المطلقين. تحول السوريون إلى عابرين في تاريخهم الذاتي، واضمحلت فاعليتهم حتى كادت أن تتلاشى.

شكلت ثورة عام 2011، استعادة من قبل السوريين لفاعليتهم الاجتماعية، ولدورهم في صناعة تاريخهم، وربما كان من أهم الاستعدادات التي أيقظتها ثورة عام 2011، شغف السوريين في رواية حكايتهم الذاتية، بلغتهم هذه المرة وليس بلغة جلادهم. على هذه القاعدة بالتحديد، انبثقت عشرات الفنون السورية التي سعت إلى رصد تفاصيل الحكاية، وعرضها على الملأ، وفي كل الحالات، كان السوريون يحتفون بفاعليتهم وبقدرتهم على القول، والأهم من كل هذا، عرض حكايتهم بلغتهم لا بلغة قاتلهم. تقول روزا: (أغلب النصوص التي نشرتها أثناء الثورة، كانت لتوثيق قصص السوريين في تلك الفترة، وكي لا يتحوّل ضحايانا إلى مجرد أرقام، أي للتأكيد على أن لكل فرد قصته الخاصة وتفاصيله التي لا تشبه بالضرورة تفاصيل القصص الأخرى. لنقل إنها كانت محاولة لحفظ الحكايات المبعثرة من النسيان، ولكن بأسلوبي الأدبي الخاص).

تنحاز روزا ياسين في رواياتها، كما في نصوصها المنشورة في الصحافة إلى ما يطيب لها أن تسميه “بالهامش”، وبلغة أخرى يصح أيضًا أن نقول: إن روزا تنحاز إلى الفقراء والمظلومين، وهو الانحياز ذاته الذي دفعها منذ البداية إلى المشاركة في ثورة شعبها دون تردد، تقول روزا: (الرواية بالنسبة لي، هي سفر الهامش، هي تتحدث عن كل الهوامش التي تحاول السلطات المختلفة إزاحتها من المشهد، سواء أكانت هوامش جنسانية أو اجتماعية أو سياسية أو أثنية أو دينية. بمعنى أن الرواية تحاول أن تنير مساحات مظلمة لطالما كرّست كمساحات مظلمة، وتدوّن تاريخ تلك الهوامش خارج الرواية الرسمية، التي تكتبها السلطات السياسية والدينية والاجتماعية وحتى الثقافية، وفي معظم الوقت على النقيض منها. تدوّن تاريخ الخاسرين، المظلومين، المنفيين، المضطهدين، والضعفاء، أي باختصار المهمّشين).

لم تكتفي روزا بالانحياز “للهامش” ضد “المتن”، بل حملت عبر سنوات تجربتها، عبء الأسئلة والقضايا التي أثارها المهمشون، وفي الوقت الذي كانت تكتب عنهم، كانت تكتب عن ذاتها وعن رفاقها، تكتب عن الاختلاف ضد التشابه، وتحتفي بتفرد الإنسان، الإنسان السوري على وجه التحديد، وقدرته على الفاعلية، تقول روزا:(الهامش بمعنى ما يعني الشك بمقابل يقين السلطة، يعني الجمال المغاير المختلف وليس المكرّس، يعني إثارة الأسئلة المحرّم إثارتها؛ لأنها ببساطة تُشكك بـ “الحقيقة المطلقة” التي يدّعي المتن/ السلطة امتلاكها).

وعت روزا مبكرًا ضريبة انحيازها هذا، والذي جعلها لسنوات سبقت ثورة 2011 عرضة لعسف أجهزة الأمن السورية؛ وحتى مؤسساته الثقافية التي ضربت نوعًا من العزلة على الروائية، وكان ذلك على الرغم من قسوته، أشبه “بوسام” حملته معها روزا في ترحالها؛ ليكون علامة فارقة في تاريخها وموقفها الجذري من نظام لم يفعل شيئًا سوى قهر السوريين وتضييع سنوات عمرهم.




المصدر