الربيع العربي بين سندان الواقع ومطارق التحليل


حسام عبد الرزاق

ما من ثورة قامت بها الشعوب في شرق الأرض أو غربها، إلا كان لها أسبابٌ ظاهرة وخفية ومباشرة وغير مباشرة، تبرر قيامها وانتفاض الشعوب نتيجة لها، وأيُّ إنكار لهذه الأسباب التي تدفع أيَّ شعبٍ على وجه المعمورة إلى الانتفاض هو ضرب من السفه والجنون؛ لأنه -وبلا أدنى شكٍّ– يُخرج هذا الفعل الجماهيريَّ العظيم عن سيرورته التاريخية؛ لأن تاريخ البشرية -على اختلاف أصنافها وألوانها وأفكارها وأيديولوجياتها واثنياتها- يثبت وبالشكل اليقيني المتواتر، أنه لا يمكن أن تجتمع جماهير مجتمعٍ ما ليقرروا الانتفاض وتغيير واقعهم، إلا نتيجة لضغوط داخلية شديدة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، مُورست عليهم دفعتهم إلى الثورة للوقوف في وجهها، والحدِّ من تأثيرها عليهم كأفراد أو جماعات، والمستعرض للحوادث التاريخية القريبة منها أو البعيدة سيلحظ ذلك جليًّا.

فما من عاقل مثلًا يتجرَّأ على القول بأن الثورة الفرنسية التي اندلعت عام (1789) –على الرغم من أن فرنسا في تلكم الحقبة كانت محاطة بألدِّ أعدائها– كانت نتيجة لتآمر خارجيٍّ إقليميٍّ أو دوليٍّ دفع الشعب الفرنسيَّ بجموعه الغفيرة إلى الخروج على حكَّامه في ثورة عارمة أحرقت العروش وأخرجت النعوش، أو أنها نتيجة لإيحاءات تآمرية خارجية سيَّرت جماهير فرنسا شبابًا وشيبًا ورجالًا ونساءً لتنفيذ أجندات تدميرية للقضاء على الدور الفرنسي الإقليمي والعالمي، مع غض الطرف عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذه الثورة التي غيَّرت وجه فرنسا وأوربا بل والعالم بأسره.

أليس من المعيب في حق الإنسانية جمعاء أن يُصوَّر شعبٌ عريق كالشعب الفرنسي بأنه كان أداة لتنفيذ أجندات تآمرية خارجية؟! أليس من الخدش الأخلاقي أن يقول ذو لُبٍّ أيًّا كانت صفته التحليلية أو الفكرية: إن فرنسا ثارت لتدمر نفسها لصالح غيرها؟! أليس من الإنصاف والواقعية التحليلية أن تُرَدَّ الأمور إلى أسبابها الحقيقية الكامنة خلفها؟

إن المنصف العاقل لا يستقي تحليلاته للحوادث اليومية من تجاربه الخاصة أو أفكاره السابقة أو صوره المخزونة، ولكن الحصيف الألمعيَّ هو ذاك الذي يسعى دائمًا إلى أن ينظر نظرة شاملة إلى الأحداث الجارية من حوله، فيرد الأمور إلى أسبابها الحقيقية الواقعية التي كانت سببًا في حدوثها وصيرورتها، وبالتالي يقف على أرض صلبة لإقامة بنائه الفكري التحليلي.

إن أسوأ ما نشهده اليوم في خِضَمِ هذه الثورات الشعبية التي عمت عالمنا العربي هو بروز فئة امتهنت الدجل والكذب والتملق والخداع والمراوغة، تحت اسم التحليل السياسي أو العسكري أو الاستراتيجي… إلخ، والتي حاولت أن تُرضي أسيادها من زبانية السلاطين والحكَّام من خلال تحليلٍ للأحداث هو أقرب إلى الأحلام أو الأفلام الهوليودية منه إلى الواقع الملموس، حيث أخذت هذه الفئة الانتهازية المنتفعة من خلال الوسائل الإعلامية المقروءة والمسموعة؛ بل وحتى في الصفحات الزرقاء من العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي، تبثُّ أفكارها السَّامَّة المعشَّقة بأجنداتٍ إيديولوجية أو إثنية أو نفعية حول هذه الثورات الشعبية، مُدَّعيةً أن هذه الشعوب المنتفضة على جلاديها خرجت لتنفذ أمرًا دُبِّرَ له بليلٍ في أروقة الدول الاستعمارية التي تمتلك ناصية القرار العالمي، وأن هؤلاء الثائرين ما هم إلا حفنة من المغفلين والأغبياء والمغرَّر بهم؛ لأنهم لا يعلمون أن ما يفعلونه يتقاطع مع ما يُخطط للمنطقة من قِبَلِ أعدائها وخصومها، وتسوق هذه الطغمةُ اللاهثةُ خلف مصالحها النفعية الضيقة والمستترةُ بعباءة الفكر والتحليل أكاذيبًا لا تنطلي إلا على معتوهٍ أو على من يحمل ذات الخلفيَّة الأيديولوجية.

إنه من المثير للاشمئزاز أن تسمع أحد هؤلاء وهو يحاول أن يحجب الشمس بإصبعه، عندما يسعى لأنْ يُظهر سقامه الفكري والأزمة الأخلاقية المزمنة التي يعيشها، وهو يُصوّر أن هذه الدِّماءَ التي سالت ما هي إلا دماء إرهابيين أو تكفيريين، وأن هذا المدنيَّ الذي لم يحمل سلاحًا قط ما هو إلا مجنَّد من قبل الدول التي ترنو إلى خراب المنطقة، وأن هذا الطفل الصغير الذي لم يكمل سنوات رضاعه والذي تحول جسده إلى أشلاء ما هو إلا قتيل أهله الذين تمردوا على أسيادهم بخروجهم على الأنظمة والقوانين، وأن كلَّ ما يجري ما هو إلا مؤامرة كونية لإسقاط أنظمة طالما وقفت في وجه قوى الاستكبار العالمي، ولكسر هيبة المحور المقاوم والممانع.

أليس من العهر السياسي والفجور التحليلي والإرهاب الفكري اختصار كل ما جرى ويجري بهذه الأسباب الافتراضية التي تدخل في دائرة الشكِّ والوهم، مع إغفال الأسباب اليقينية الواضحة الجلية التي لا يمكن أن تنكر، والتي تقف خلف هذه الانتفاضات التي عمت وطننا العربي ثأرًا لكرامة شعوبه وجماهيره التي عانت من هذه الطغمة الفاسدة الحاكمة ويلات الهزيمة والتجويع والإفقار والإذلال وكمِّ الأفواه وسحق المعارضين، مع استئثارهم واستئثار عائلاتهم بثروات البلاد ومُقَدَّراتها.

لا أُنكر مطلقًا أن هناك عدوًا خارجيًا متربصًا يحاول زعزعة أمننا وتفتيت أُمَّتِنَا، ولكني لا أرضى، وأنا ابن هذه الأرض، أن يُتَّهم هؤلاء الأفذاذ الذين سقوا شجر بلادهم بدمائهم بأنهم عملاء لعدوِّهم. كما أني لا أنكر أن بعض ما يجري اليوم من أحداث قد يصب في صالح من يكيدون للأمة ويتآمرون عليها، من الدول الغربية؛ لكني أنكر أن يكون هذا بفعل مقصود غايته تحقيق مرامي العدوِّ وأهدافه؛ بل إن المتهم الحقيقيَّ بالتآمر وتنفيذ المخططات التفتيتية الخارجية هم هؤلاء الجلاوزة من الحكّام الذين قتلوا شعوبهم بأسلحة وعتاد مشترى من جيوبهم لِيُقاتل به عدوهم، وإذ بهم أول من يُكوى بناره ويَصْلَى بأَوَارِه، إن هذه الأنظمة القمعية القابعة على صدور شعوب هذه البلاد والتي طالما رفعت شعارات المقاومة والممانعة والتَّصدي لم تطلق طلقة واحدة باتجاه من تدعي الوقوف في وجههم، وما زالت إسرائيل وخلال العقود الماضية تنعم بالأمن الذي حلمت به منذ نشأتها بفضل جبهة “الصمود والتصدي” التي أنشأتها هذه الأنظمة القمعية البائدة فكريًا وحضاريًا، ولم تكن هذه الشعارات إلا ضرب من ضروب تسويق الأنظمة داخليًا؛ لخداع هذه الشعوب والسيطرة عليهم سياسيًا وفكريًا واقتصاديًا.

إن هذه العصابةَ التي امتهنت الإجرام الفكريَّ في تحليلاتها وآرائها هم امتداد واضح لتلك الأنظمةِ المتهالكةِ، التي صنعت هؤلاء ليكونوا ذراعًا ثقافيًا لتعويم أفكارها، وممارسة “التشبيح” التحليلي والفكري على شعوب المنطقة، فهم صورةٌ بشعةٌ عن أنظمتهم وأسيادهم الذين يلهثون لإرضائهم بتحليلاتٍ خشبية متعفِّنة أكل الدهر عليها وشرب، لذلك ترى هذه الحفنة من المحلِّلين يُوزِّعون أوسمة الوطنية على من شاؤوا ممن وافق هواهم وهوى أسيادهم، ويُلحقون عار الخيانة وشَنَارَ العمالة بالأكثرية الساحقة من شعوب بلادهم المضطهدة، غاضِّين الطرف عن عمالة أسيادهم من السفكة والقتلة التي لا تحتاج إلى دليل أو برهان لوضوحها وجلائها، وما حالُ هؤلاء المحلِّلين المرتزقة إلا كحال المثل العربيِّ القائل: “رمتني بدائها وانْسَلَّت”.




المصدر