تجلّي الإصلاح الدينيّ الوهابي في الإسلام السياسيّ
2 نوفمبر، 2016
رياض درار
يمكن لنا التأسيس للإسلام السياسي مع حركة محمد بن عبد الوهّاب التي دعت إلى الإصلاح الدينيّ. لكنها قادت حروبًا لمواجهة العثمانيّين، بعد تحالفها مع آل سعود، عامدة إلى إعادةِ تعريف التوحيد، ومواجهةِ الشرك المتمثّل في الكهانةِ والسحر والتضرع للقبور والتوسل بالأولياء واستحكامِ الخرافات. وكان هذا حال الحركة البروتستانتية، فهي أبطلت غفران الذنوب والتجارة ببيع الثواب والسعادة الأخروية، وأبطلت عبادة الصور واعتمدت الكتب المقدسة نبراسًا للعلم البشري، ومنبعًا للنور والإيمان، وأنه لا يباح للعقل النظر فيما يخالف ما ورد فيها، وكل نظر عقلي ينال حتفه كمهرطق على الدين الصحيح. ويمكن أن تُعد حركة ابن عبد الوهّاب حركة لوثريّة بروتستانتية تطهيرية، بالمعنى الإصلاحيّ الذي يسعى إلى العودة إلى “صحيح الدين”، وإلى القراءة الحرفية للنصوص الدينيّة بلا تأويل، قراءة تعتمد الأمر بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له، والموالاة فيه وتكفير من تركه والبراءة منه، وأن كل حكم أو نظام لا يكون له أساس من الدين (الكتاب والسنة)، فهو طاغوت وباطل، وأن التشريع والتحريم والتحليل من خصائص الألوهية، فمن يجعل لله شريكًا يضاهيه في خصائصه؛ فقد كفر، يستوي في ذلك المشرّعون للقوانين والنظم الوضعية (البرلمانات)، والحكومات التي تحكم بها، والمجتمعات التي تتحاكم إليها.
الوهابية عقيدة وقفت بمواجهة الفقه السائد؛ بهدف تطهير العقيدة من شوائب، تراكمت بفعل الزمان؛ لغاية العودة إلى صدر الإسلام، مترجمة ذلك بتحالف السيف والمصحف، السلطان والفقيه، واعتمدت نظرية في الحكم تستند -في جذرها- إلى السياسة الشرعية لابن تيمية التي ترى أن غاية الحكم والدولة أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن مهمة الإمام تنفيذ شرع الله من كتاب وسنة، أي لا يحق له التشريع، وطاعته مقيدة في حدود ذلك، ما يفتح الباب للخروج عليه كلما ظهر من لا يرى أنه ينفذ قول الرسول، إضافة إلى تأكيد الصفات اللازمة للإمام الحاكم، وهي القوة والأمانة، وإذا كان لازم الأمانة ضمان عدم الخروج على كتاب الله؛ فهي تضعه تحت سيطرة تأويل الفقيه. ومن جهة القوة، فهو يستوجب القدرة والغلبة والقهر والسلطة، وهو -هنا- يخرج عن سياسة من قال الأئمة من قريش، وعن شرط القرشية. وهو موقف الخوارج.
تمسكت الحركة الوهابية بلزوم طاعة الإمام برًا أو فاجرًا، مالم يأمر بمعصية، وأظهرت فكرة الولاء والبراء كشرط من شروط الإيمان، وهي تعني التزام فكرة واحدة، يقولها الفقيه وينفذها الإمام، فهي أو الحرب؛ لأنها تعني -بمصطلح السياسيين- من ليس معي فهو ضدي، لذلك؛ اعتمدت العنف وسيلة للتغيير باسم الجهاد، وبذلك أرست للحركات الجهادية أساسات فكرية تمثلت بتمظهرات سياسية عدة، من حركة المودودي إلى الإخوان إلى طالبان والقاعدة والدولة الإسلامية، فكل هذه الحركات تقوم على الولاء والبراء، وعلى البيعة والالتزام باتباع الإمام، وعلى حكم المتغلب ومفهوم الحاكمية، وهذه الحركات كلها تؤمن بتطبيق الحدود من غير تأويل، وتقطع الرؤوس والأيادي وبالرجم والحرق، وتهدم الأوابد على أنها شركيات، وتكتم كل رأي مخالف، وتكفر أهل البدع، وتكفر من لا يكفرهم، وتستخدم العنف الشديد للوصول إلى غاياتها في السلطة ومشروع إقامة الخلافة، وأن المعركة معركة توحيد ضد الكفر، وإيمان ضد الشرك، وليست معركة اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
على أساس هذا التفسير للدين، قامت حكومة دينيّة، توارث فيها رجالُ العائلة الحاكمة المتحالفة مع رجال الفتوى، أمرَ الدين والسياسة. فكفّرت المخالفين (كالمتصوّفة والمتشيّعة)، واتهمتْ جماعاتٍ من أهل التجديد بالمروق من الدين، وأغلقتْ بابَ الاجتهاد والتأويل، وحاربت القيمَ الوافدة في التعليم والصناعةِ والبناء، بوصفها من منجزاتِ الغرب المسيحيّ، أو من مظاهر فلسفتهم الماديّة. وكل من تبعها من حركات مخالفة فهي لا تحارب الوهابية، وإنما تحارب النظام الذي تعدّه قد انحرف عن المبادئ ورضي بالهوان، وخضع للغرب الكافر، وأن من يقف في صفه من العلماء ليسوا من جذر الوهابية، وإن تمسحوا بها، لذلك؛ انتقلوا إلى تسمية السلفية بدل الوهابية؛ للتعبير عن الانسلاخ من طاعة الحاكم، ممثلًا بالسعودي ومن يعمل بأمره من هيئة العلماء.
لقد شبهنا الوهابية بالبروتستانتية، كحركة تطهير؛ لتشابه الموقف، من العلم في الكتاب المقدس بين هذه المدرسة ورجال الكنيسة الذين كانوا يزعمون أنّ الكتاب المقدس يتضَّمنُ كل أنواع العلوم التي يحتاجها الناس، سواء أكانت علوم دين أم علوم دُنيا. كما ذكر الشيخ محمد عبده :”وأنَّ أساس كُلَّ علمٍ، عندهم، هو الكتاب المقدّس وتقاليد الكنيسة، وأنَّ الله لم يقصُرْ تعليمنا بالوحي على الهداية إلى الدين فحسب، بل علَّمنا بالوحي كلَّ ما أراد أنْ نعلَمه مِن الكون، فالكتاب المقدّس يحتوي من المعرفة على المقدار الذي قُدِّر للبشر أن ينالوه، فجميع ما جاء في الكتب السماوية من وصف السماء والأرض، وما فيها، وتاريخ الأمم، ممّا يجب تسليمُه مهما عارضَ العقلَ، أو خالفَ شاهِدَ الحسَّ، فعلى الناس أن يُؤمنوا به أولاً، ثم يجتهدوا ثانيًا في حمل أنفسهم على فهمه” (من كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية). وهذا قاد المفتي، ابن باز، إلى عدم الاعتراف بقدرة الإنسان إطلاق المركبات والصعود إلى القمر، كمثال على العقلية المفوتة وجمودها.
يمكن بمتابعة يسيرة أن نكتشف أن الإسلام السياسي لم يخرج عن هذه القراءة التي لم تخرج عن المفاهيم الوهابية، بل بدأت تتجاوزها إلى مفهومات أكثر تشددًا وتطرفًا، وكانت المدرسة السلفية تعبيرًا متطورًا، عمل على القضاء على أي فكر تجديدي ومحاربته بوسمه بالابتداع، واستمرَّ تنامي التفكير السلفيِّ الأصوليّ الذي تمثّل في رفض إصلاحاتِ محمد عبده الدينيّة، ونداءات علي عبد الرازق حول الإسلامِ وأصول الحكم، كما رُفضتْ إصلاحاتُ طه حسين، وأحمد أمين، وقاسم أمين، وخالد محمد خالد، وصولًا إلى تكفير نصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، تمظهر الإسلام السياسي، وراح يبحث عن دولته معتمدًا على أحكام الفقهِ التقليديّ وصوره المأخوذة من أحكام الماوردي السلطانيّة، وعن السياسةِ الشرعيّةِ لابن تيميّة، وبعض مدوّناتِ الفقه في مجال الحاكمية وتطبيق الشرع، وقد كان السيفُ توأمَ القواعد الفقهيّةِ الآمرةِ الناهية؛ وهو ما جعل مجالَ الحدود الشرعيّةِ يتجه نحو التحريم أكثر من توجّهه نحو الإباحةِ، وجعل الخلطَ بين الدين والدولةِ من أمور الشرع ولوازم السياسة.
حاولت اجتهادات محمد عبده، المنحازةُ إلى مدرسةِ رفاعة الطهطاوي، التكيف مع الحداثة والتركيز على قضيّةِ التربية والتعليم. إلا أنها توقّفتْ مع امتدادِ التأثير الوهابي وانحياز محمد رشيد رضا، أبرزِ تلاميذ محمد عبده وناقل أفكاره عبر مجلة المنار، إلى هذا التيّار؛ فالسيّد رضا ابتعد عن الخطِّ التجديديّ والتنويري لمعلّمه الشيخ محمد عبده، سائرًا في ركاب الإصلاح الوهابيّ الذي أسّس للتيار السلفيِ، وتصادم مع الغربِ وحضارته. (يمكن الرجوع إلى موقع بوابة الحركات الاسلامية ــ رشيد رضا وتأسيس الأيديولوجيا الوهابية في مصر)
خَلَفَ رشيد رضا حسنُ البنّا، الذي قاد عمليّة تديين السياسة، وتسييسِ الدين، وحوّلَ الإسلامَ إلى أيديولوجيا شاملةٍ؛ من حيث كونه عقيدةً وعبادةً ووطنًا وجنسيّةً ودولةً وروحانيّةً وعقلًا ومصحفًا وسيفًا، وجعل هدفه إقامةَ دولةٍ إسلاميّة، وأسّس الإخوانَ المسلمين كتنظيمٍ سياسيٍ عمل على إخراج الإسلام من الجامع إلى الواقع، كما تقول مدرسته، إلّا أنّه لجأ إلى العنفِ عبر تشكيل النظام الخاصِّ، الذي أسّس لظهور فكر سيّد قطب، وهو فكرُ محنةٍ، رسم للجهاد المعاصر خطًا يمرُّ عبر تكفير المجتمع، بعد تأكيدِ جاهليّته، والدعوة إلى تغييره وأسلمته من جديد، والسعي إلى فرض مفهوم “الحاكميّة” المتمثّلة في الرجوع إلى حكم الله في جميع المسائل. (رياض درار ــ العلمانية والتجديد الديني)، مع ضرورة التأكيد دائمًا أنّ هذا الفهم المخصوص لـ”الحاكميّة” يتناسى التفريق بين معنيي الحكم والأمر، فالحكمُ لله يتمثّل في قضائه وتشريعه الذي لا تدخّلَ للبشريّة فيه، وهو الثابت من أمر الدين. أما الأمر؛ فهو عمليّة سياسيّة تقوم على قاعدة التشاور بين الناس بناءً على أنّ “أمرهم شورى بينهم”، وحيث تكون شورى، فإنّ المرجعيّة هي لحكم البشر ولمصالحهم في تسيير شؤون حياتهم، وفي علاقاتهم في إدارة أمور دنياهم.
صار المسلمون على هامش الحياة، بفعل أخطاء الحكومات التي حاربت الإسلام السياسي أو تحالفت معه، إلا أن هذا الإسلام السياسي الذي قام على تجييش الأنصار، أو العمل على ترهيب المخالفين أو تكفيرهم، ولم يقرأ التغيرات بعد أن اتسعت الأوطان واختلطت الشعوب وتغيرت مراكز القوى، فإنه ارتكب آثاما، وعبر أحكام من صلب القراءة التراثية، دون تمحيص آثارها على الأمة وعلى الدعوة، فيها كثير من الانفراد، والتعالي والمغامرة غير محسوبة النتائج؛ وهذا ما دعا قيادات وتنظيمات إلى سعي دؤوب؛ لاستعادة دورها الإنسانيِّ الفاعل، وإلى أن ينخرطَ مفكرون مسلمون في خيار المجتمع المدنيِّ القائم على قيم الحريّةِ والديمقراطيّة واحترام الآخر والتعايشِ معه والتكيّف مع العصر، والانتقال إلى الدولةِ المدنيّة؛ وهو ما قاد إلى فهمٍ جديدٍ للدين، وللعمل السياسيّ، يقوم على نفي احتكارِ المعرفة، ونبذ العنفِ الاجتماعيّ، والمشاركةِ السياسيّة، وقبولِ الآخر، واعتمادِ العقل أساسًا في اتخاذ الخيارات، وتجديد الدين عبر استيعاب الحداثة.
[sociallocker] [/sociallocker]