عن الثورات ومصائرها الصعبة والمختلفة
2 تشرين الثاني (نوفمبر - نونبر)، 2016
ماجد كيالي
ينخرط عامة الناس في الثورات، أو في الحراكات الثورية، بكل حماسة وعنفوان، مغلّبين في ذلك النظرة الخلاصية والحتمية واليقينية، التي تعتقد أن الثورات هي بمنزلة خط مستقيم، وأنها ستنتصر حتمًا، وستحل كل المشكلات كأنها عصا سحرية. فوق ما تقدم فإن هذا الاعتقاد لا يبدو عندهم قابلًا للفحص أو المراجعة أو المساءلة، أو حتى مجرد النقاش، بل أن هكذا حديث يبدو عند أغلبهم، مثار شبهة، على أقل تقدير؛ وطبعًا هذا يشمل بعض المحسوبين على النخبة من السياسيين والمثقفين الثوريين.
بيد أن التجارب الثورية التاريخية العالمية والعربية، وحتى التجربة السورية، تؤكد أن هذا الاعتقاد لا يصمد عند أي مثال، بل إن الثورات تبدو وكأنها عصية على عالمنا العربي، فالثورة الأولى، المعروفة باسم الثورة العربية الكبرى (مطلع القرن العشرين)، والتي هدفت الى التخلص من السيطرة العثمانية، تمخّضت عن خضوع معظم البلدان العربية للسيطرة الاستعمارية. أما الحركات الوطنية، أو الاستقلالية، في البلدان العربية، فقد أدت إلى وقوع عديد من البلدان العربية الرئيسة (مصر وسورية والعراق واليمن وليبيا والجزائر والسودان) في قبضة الجيش، وآلت إلى قيام أنظمة دكتاتورية، ومستبدة بهذه الدرجة أو تلك. وفي العموم فإن معظم الأنظمة العربية، التي خلفت الاستعمار، نجم عنها حجز التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي في العالم العربي، إذ لم تقم الدولة حقًا، ولم يتمظهر المواطن الفرد، الحر، والمستقل؛ ما أدى إلى غياب مفهوم المواطنة، وبالتالي، لم تصبح مجتمعاتنا بمنزلة مجتمعات حقًا، وهكذا ضاعت تلك الفترة من عمر عالمنا العربي، وهي الفترة ذاتها، التي استطاعت فيها دول أخرى، مثل تركيا وماليزيا والبرازيل وكوريا والهند، مثلًا، أن تنمو وتتطور وتضع نفسها على خريطة الدول الكبرى في العالم.
في مراجعة تاريخية موجزة، يمكننا ملاحظة أن تجربة الحركة الوطنية، التي صعدت في السبعينيات والثمانينيات، في لبنان، لم تكن ناجحة، إذ غابت او ضمرت تلك الأحزاب، التي كانت، في حين جرى تطييف المجتمع والسياسة، والحركات السياسية في هذا البلد. في اليمن اختفت ظاهرة اليمن الديموقراطي في الجنوب، فضلًا عن أنها لم تستطع تعميم خاصيتها على الشمال، في حين استطاع الشمال تعميم خاصيته عليه، والأنكى أن هذا البلد كله يبدو اليوم بمنزلة رجل مريض، تتنازعه الحركات الطائفية والنعرات المذهبية والانقسامات العشائرية والمناطقية، وهو التوصيف ذاته الذي ينطبق على السودان، وعلى ليبيا هذه الأيام. طبعًا ليس حال الجزائر بأفضل، فهذا البلد الغني بموارده تعرض لحرب أهلية، فضلًا عن استنزاف ثرواته بسبب استشراء الفساد في طبقته السياسية.
في السياق ذاته، أيضًا، يمكن الحديث عن التجربتين السورية والفلسطينية. هكذا قد لا نجد شعبًا قدم أكثر مما قدم السوريون من تضحيات وعذابات ومعاناة، في الأعوام القليلة الماضية، مع حوالى 500 ألف من ضحايا الصراع، وأضعافهم من جرحى، بالقصف من البر والجو، بالصواريخ والبراميل المتفجرة، وعشرات ألوف المعتقلين وألوف القتلى تحت التعذيب، وحوالى عشرة ملايين بين نازح ولاجئ ودمار مدن بأكملها، مع كل ذلك فإن السوريين لم يحققوا بعد ما نشدوه في ثورتهم، التي عرفت بأنها باهظة وأكثر تعقيدًا من بين الثورات.
القصد أن القصة لا تتعلق ببذل التضحيات وتحمل العذابات وتقديم البطولات، إذ إن الأمر يتطلب أيضًا إدارة (أو قيادة) تدرك تعقيدات الثورة السورية المحلية والإقليمية والدولية، وتدير كفاح شعبها وموارده بطريقة ناجعة، أي: أقل قدرًا من الأكلاف لأكبر قدر من النتائج، ما أمكن. وهكذا، مازالت الثورة السورية تدور حول ذاتها، فعلى الرغم من أن النظام خسر كثيرًا، إلا أن الثورة لم تكسب ما خسره، وها نحن إزاء حالة تمزّق في بنية المجتمع، وإزاء هيمنة قوى متطرفة ومتخلفة وعنيفة، وإزاء هيمنة وتنازع لقوى دولية وإقليمية باتت تتحكم بمصير سورية وشعبها.
هذا ينطبق، أيضًا، على الوضع الفلسطيني. فمنذ قرن، ولا سيما منذ انطلاق الحركة الوطنية المعاصرة، منذ نصف قرن، مازال الفلسطينيون يدورون حول أنفسهم، على الرغم من الإنجازات التي حققوها. فمن الصحيح أن إسرائيل تخسر هنا أو هناك، لكنها مازالت أكثر استقرارًا وقوة، في نظامها السياسي واستقرارها الاجتماعي ومجالها الاقتصادي وبنيتها العسكرية، في حين مازال الفلسطينيون لا يستطيعون تثمير تضحياتهم وعذاباتهم، وبطولات مقاوميهم، إلى حقائق سياسية ناجزة، وذلك مع نصف قرن من الكفاح المسلح، وانتفاضتين كبيرتين. بديهي أن ثمة مسؤولية تقع على عاتق الوضعين العربي والدولي، لكن ثمة أيضًا مسؤولية تقع على عاتق القيادة الفلسطينية، وكيفية إدارتها لصراعها ضد إسرائيل، وهو ما ينبغي الاعتراف به وإدراكه والبحث فيه، أين كنا وأين صرنا ولماذا وكيف؟
والواقع فإن الفلسطينيين يبدون كأنهم يقاومون بتضحياتهم وعنادهم وتاريخهم، وربما أن هذه ميّزة أو مشكلة أو كليهما معًا. فهي ميّزة لأنها تعبّر عن حيوية شعب فلسطين ومقاومته لليأس، ودفاعه عن ذاكرته وتوقه للحرية والكرامة، وعن الأمل في قلبه لإطاحة المشروع الصهيوني. أما كونها مشكلة؛ فلأنها تنطوي على الافتقار للسياسة، التي تتأسس على الاختيار الحر والمشاركة في تقرير الخيارات، والمساءلة والنقد والمراجعة والمحاسبة. وفي التجربة الفلسطينية، استفادت الفصائل من هاتين (الميزة والمشكلة) للهيمنة على المجتمع، وتأبيد مكانتها، مع افتقادها للعلاقات الديموقراطية والتمثيل والتداول وللحراكات الداخلية وللهيئات، التي تصنع القرارات، وتتفحص الخيارات، وتعتمد المساءلة والمحاسبة.
بالنتيجة؛ ثمة استنزاف للثورات، ومحاولات لحرفها عن مقاصدها، أو تحميلها أكثر مما تحتمل، للإضرار بها او قطعها أو لإزاحتها عن مقاصدها. والمشكلة أن القوى الفاعلة أو المسيطرة في الثورات لم تدرك ذلك تماما، بل وربما استهواها، بظن منها أن ذلك يسرّع التغيير، على الرغم من كلفته الباهظة، في حين كان المطلوب منها الحفاظ على سلامة مقاصدها، والتحكم بمواردها البشرية، والاقتصاد في تصريفها لقواها، في صراع يفترض انه طويل الأمد ومضني، ومعقد.
واضح أن هذه الثورات، على ضوء مآلاتها، كانت ومازالت أحوج إلى المراجعة والنقد والمساءلة، لأن اليقينية والروح العاطفية والحماسية تبدد الطاقات، وتبلد التفكير، وتشي بالتسليم للأقدار، في عمل يستدعي أقصى قدر من الحكمة، والتفكير والتدبير.
[sociallocker] [/sociallocker]